الأمل وعيُ لا استسلام

يؤكد علم النفس أن الدماغ البشري يحمل ما يُعرف ب الانحياز السلبي، وهو ببساطه ميل ذهني يجعل العقل أكثر حساسية للأحداث السلبية، بل ويمنحها وزناً وتأثيراً يفوق الإيجابيات، حتى عندما تكون الاحتمالات متساوية في الواقع.

وقد أدّت هذه الآلية دوراً مهماً في تاريخ الإنسان، إذ ساعدت أسلافنا على الحذر والبقاء، غير أن ما كان في أصله أداة وعي وحماية، تحوّل في عصرنا الحالي إلى ”نمط معيق للتفكير“، خصوصاً حين تجاوز حدوده الفردية وتسرّب إلى الوعي الجمعي، فأصبح الميل إلى التوجّس، وتوقّع الإخفاق، وتضخيم المخاطر سلوكاً شائعاً يتكرّر في المؤسسات والمجالس والبيوت.

فما إن تُطرح فكرة جديدة، أو يُقترح مشروع غير مألوف، حتى تُستقبل تلقائياً بسيلٍ من التثبيط والانتقادات والحديث عن الاحتمالات السلبية، بل وترديد عبارات من قبيل ”الظروف لا تسمح“ أو ”جرّبنا ذلك قبل ولم ننجح“... وكأن الفشل هو الاحتمال الوحيد الجدير بالنقاش

صحيح أن الإنسان بطبعه مخلوق محافظ، يخاف من المجهول ويرتاح للمألوف، بل ويُفضّل الثبات والاستقرار على الفعل والمغامرة، غير أن الخطورة لا تكمن في هذا الميل الفطري، بل في تحوّله إلى حالة ذهنية دائمة، ينتقل فيها الحذر من كونه أداة تقييم إلى كونه أسلوب حياة، أو إلى ارتداء نضارة سوداء على العينين يُرى بها كل فكرة جديدة مغامرة خاسره، وكل مبادرة غير مألوفة مجازفة غير محسوبة، وكل خروج عن بعض العادات والتقاليد تهديداً يجب إجهاضه أو وأده، لا لفرصة تستحق الاختبار.

فالدماغ الذي خُلق ليكون أداةُ وعيٍ وتحرر، لم يُخلق ليٌبقينا أسرى لمخاوفنا، والوعي الجمعي الذي يُفترض أن يصنع التوازن بيننا، لم يُوجد ليُكرّس الجمود أو ليشرعن التراجع باسم الحكمة والعقلانية، وحين نمنح الانحياز السلبي سلطة غير مستحقّة على قراراتنا وأحكامنا فإننا لا نُنتج وعياً ولا حكمة، بل نُعيد إنتاج ثقافة تثبيط وخوف تتخفّى في ثوب الحكمة.

فالوعي الحقيقي لا يُقصي الاحتمالات السلبية ولا يتجاهلها، لكنه يرفض منحها حق السيادة، ولا ينكر المخاطرةُ لكنه يرفض أن يجعل منها المعيار الوحيد للتفكير

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا:

كيف تحوّل الانحياز السلبي في وعينا الجمعي من أداةٍ للحذر إلى مبرّر لتعطيل المبادرات ووأد الأفكار قبل اختبارها؟ وما الفرق بين العقلانية والتشاؤم؟ وكيف يمكن إعادة بناء مفهوم الأمل بوصفه فعلاً عقلياً واعياً، لا خطاباً عاطفياً، ولا انتظاراً سلبياً على مستوى الفرد والمؤسسة والمجتمع؟.

كيف تحوّل الحذر إلى تعطيل

في الاجتماعات، وفي مجالس البيوت، وعند أي نقاش حول فكرة غير مألوفة، غالباً ما يتكرّر المشهد ذاته، فقبل أن نفهم الفكرة جيداً، يبدأ الحديث عمّا قد يفشل فيها، وعن أسوأ السيناريوهات الممكنة، وغالبا ما ينتهي النقاش قبل أن يبدأ القرار، وهو سلوك لا يُمارس باعتباره رفضاً صريحاً للفكرة، بل بوصفه ”تحفّظاً مسؤولاً“ ومع تكراره واعتياده، يتحول من إجراء احترازي إلى طريقة تفكير ثابتة، وعند هذا المنعطف، لا تعود المشكلة في الفكرة نفسها بل في الذهنية التي تسبق تقييمها، ولعل من أبرز أسباب ودوافع هذا التحول السلبي

1 - الخلط بين التجربة والفكرة

فالفكرة هي: احتمال، وتصور ذهني مفتوح على التعديل والتطوير، بينما التجربة هي: تطبيق مشروط بزمان ومكان وأدوات وأشخاص وظروف محددة، وحينما نقول ”جرّبنا هذا من قبل ولم ننجح“ فإننا في الغالب لا نُحاكم الفكرة، بل نُحاكم نسخة واحدة من تطبيقها، ومع ذلك نمنح الحكم صفة العمومية والنهائية، فمثلاً العمل بالأهداف أو العمل والدراسة عن بُعد رُفض لسنوات في مؤسسات كبرى بحجة أنه ”لا ينجح“ و”يقلّل الانضباط“ لكن الحقيقة أن الذي فشل هي التجربة الأولى أو النسخة الأولى، وعندما تغيّرت الظروف واُعيد تصميم التجربة أصبحت الفكرة نفسها معياراً للكفاءة والإنتاجية.

وهذا ما أشارت إليه الأبحاث في علم النفس المعرفي أو ما يُعرف ب خطأ التعميم المتسرّع، حيث يميل العقل إلى تعميم نتيجة التجربة المحددة على كل الاحتمالات المستقبلية، وهو تحيّزُ ذهني ناتجُ عن الكسل ِالمعرفيّ لا عن غياب ِالعقلانية، وكما تُشير دراسات علم الابتكار إلى أنّ أكثر من 70% من الأفكار التي أحدثت تغييراً في العالم فشلت في محاولاتها الأولى، ليس لأن الفكرة خاطئة، بل لأن نسختها الأولى كانت ناقصة.

ومن الأقوال التي علقِت في ذهني وتُعبّر عن موقف أصحابها من الفشل مقولة كونفوشيوس الذي قال إن ”عظمة المرء لا تكمن في عدم فشله، بل تكمن في عدم استسلامه، وكما قال توماس أديسون“ من يتوقّفون عن المحاولة لا يدركون كم كانوا قريبين من خط النهاية ".

2 - الخوف من المسؤولية المقنّع بالعقلانية

من أكثر الأسباب خفاءً وتأثيراً، أنّ الرفض المسبق للأفكار لا يكون دائماً بدافع الحذر، بل بدافع الهروب من تحمل المسؤولية، فالعقلانية تعني: دراسة الأفكار بوعي وميزانٍ نقذي قبل قبولها أو رفضها، بينما التشاؤم المقنّع يعني رفضها سلفاً بدافع الخوف أو انعدام الثقة، وبين الحالتين فرقُ شاسع في النضج والنتائج.

3 - تقديس الماضي وتحويل الخبرة إلى قيد ذهني

من أخطر أشكال الانحياز السلبي في الوعي الفردي والجمعي، أن تتحوّل الخبرة من أداة فهم وتعلّم إلى سلطة تُعطل التفكير، ويُستدعى الماضي لا بوصفه مرجعاً نقدياً، بل بوصفه حكماً نهائياً على الحاضر والمستقبل.

فكثير من الأفكار والمبادرات تُرفض لا لأنها فاشلة، بل لأنها ”غير مألوفة“ وكأن المألوف معياراً للجودة، لا مجرّد عادة تراكمت عبر الزمن، وقد لخّص الإمام علي هذه المفارقة بقوله ”من هاب الأمور ابتُلي بما يهاب“ في إشارة واضحة إلى أن الخوف الدائم لا يحمي من الخسارة، بل يصنعها، وقد عبّر كذلك رائد الاعمال المعروف بيتر دراكر عن هذا المعنى حين قال ”أكبر خطر في أوقات التغيير ليس التغيير نفسه، بل التصرف بعقلية الأمس“

ما الفرق بين العقلانية والتشاؤم

التشاؤم عكس التفاؤل والسعادة، فهو نمط تفكير يميل إلى توقّع الأسوأ وتضخيمه، وقد يتحول مع الزمن إلى حالة نفسية تُبقي الإنسان في وضع غير صحي يؤثر في المشاعر والسلوك، حتى عندما تكون المعطيات متوازنة أو غير مؤكّدة، وقد أثبتت الدراسات أنّ معظم الأمراض التي ترتبط بحالتنا النفسية ومزاجنا الخاص لا تعود إلى الظروف وحدها، بل إلى أنماط التفكير السلبية المزمنة، ما يعكس تراجعاً في المناعة وارتفاعاً في معدلات الامراض.

في المقابل، تُشير دراسة سويدية إلى أن التوقعات الإيجابية لدى الأفراد ترتبط بارتفاع مستوى المناعة لديهم.

أما العقلانية فهي ليست ”توقّع الأسوأ“ بل إدارة المجهول بوعي ونضج: أي أن ترى المخاطرة كما هي ”لا أقل ولا أكثر“ ثم تُحوّلها إلى فرضيات قابلة للاختيار وخيارات قابلة للتنفيذ.

الأمل: ممارسة عقلانية واعية

الأمل بوصفه ممارسة عقلية: يعني القدرة على الاعتراف بالخوف دون منحه سلطة التعطيل، وعلى رؤية المخاطر دون جعلها الحكم الوحيد، وهذا ما قصده توماس إديسون حين اعتبر الفشل معرفة لا هزيمة، وما أشار إليه بيتر دراكر عندما نبّه إلى أن أخطر ما في التغيير هو التفكير بعقلية الأمس.

فالأفكار التي غيّرت طرق العمل والتعليم والإدارة وبعض العادات والتقاليد لم تبدأ كقرارات كاملة، بل كتجارب جزئية أُعيد تعديلها مراراً.

الأمل هنا لا يعني انتظار الفرج، ولا يَعِد بالنجاح، ولا يخفّف الخوف، لكنه يمنع الخوف من إغلاق القرار قبل أن يُجرّب، وهو القبول بالخسارة المحدودة، بدلا من أمان جامد، وبخطوة بدلاً من انتظار ظرف كامل لا يأتي في الغالب، وهو ما عبّر عنه الإمام على بقوله ”الفرصة تمرّ مرّ السحاب فانتهزوا فرص الخير“

كيف نُعيد بناء ثقافة الأمل على المستوى الفردي والمؤسسي والمجتمعي

على المستوى الفردي ينبغي إعادة تعريف الخوف من كونه عائقا يُجمّد المبادرات الفردية إلى كونه فعل يحتاج إلى التحرك والتفاعل، والانتقال من وهم البحث عن الكمال والجاهزية التامة، إلى قبول الفعل الجزئي القابل للتقييمّ والتصحيح، ومن الخشية من الفشل إلى التعامل معه بوصفه جزءاً من التعلّم

وعلى المستوى المؤسسي ينبغي الفصل بين الحذر وإلغاء المبادرة، واعتماد التجربة المحدودة بدلا من القرارات المؤجلة، وبناء أنظمة تُدير المخاطر ولا تُنكرها، وتُقيّم الأفكار بقدرتها على التطوير لا بنتائجها الأولى

وعلى المستوى المجتمعي ينبغي كسر هيمنة التشاؤم المقنّع بالحكمة، وإعادة الاعتبار للتجربة قبل الحكم، ولمساءلةِ المألوف من دون القطيعة معه، بحيث يصبح الأمل ممارسة عامة قائمة على الفعل والمحاولة المسؤول لا انتظار الظروف.

الخاتمة: الأمل قرار، لا ظرف

في النهاية نستطيع أن نقول إن أخطر ما يواجه الأفكار ليس فشلها، بل وأدها قبل الاختبار، فالانحياز السلبي ضروري كإنذار مبكر، لكنه يصبح مرضاً حين يتحول إلى قاضٍ دائم أو إلى ثقافة تُعطّل المبادرات وتُجمّد الإمكانات باسم العقلانية والخبرة

وان ثقافة الامل التي ندعو لنشرها ليس وعداً بالنجاح، ولا أنكاراً للمخاطر، بل هي وعيُ مسؤول يرى الخطر دون تضخيم، ويعترف بالخوف دون الخضوع له، ويختار التجربة المحدودة بدلا من الجمود، فالأمل ليس استسلاماً للواقع، بل قدرة عقلية على منعه من أن يتحول قدرا.