عشق الحقيقة - ج 2

خرجنا من الجزء الأول حاملين بعض التساؤلات لنستوضح بها ما قلناه سابقا في مضمار العشق في مقاييسه الإلهية الحقة بعد أن تشخصت في الإنسان المعصوم لتندك العاطفة في العقل وتتخذ طريقا ظاهرا وملموسا لقدوة بشرية متميزة بالموثقية والمصداقية الكاملة والمؤدية للخلوص في التوجه لمحبة ذات الخالق بعد أن تعذر الخيال أو الفهم للتوصل في ربط الذهن بغير المادي، لاستحالة تحمل الذهن المخلوق وعجزه عن المعرفة لذات الله جل وعلى، فصار برحمة الله ورأفته أن جعل أثار صفاته وحوله ومنه هي الدليل على ما لا يستطيع العقل البشري أن يستوعبه من حقيقة.

فخلق كلماته المعبرة عن صفاته، ليستوعب المخلوق مخلوقا مثله، القدرة للخيال وللتفكر تصطاخ لمادية المعنى المعبر بالدلالة على صفات الخالق من حيث المصطلح المادي والاعتباري لا الحقيقي فحقيقة الصفات الإلهية أسما من الإدراك البشري المادي، فهو فوق المادة كنها رفيعا لا تلامسه أنامل الفكر أو تحسه لمعات الذهن:

قال الباقر : «كلما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه مصنوع مثلكم، مردود إليكم». [1] 

«وكل ما خلق الله للإنسان من أدوات إنما تؤكد الاستحالة العقلية، فإن هذه الأدوات المادية وهي الحواس لا تدرك إلا المادة من جنسها.. والإمام بقوله هذا قد أرسى قاعدة عدم الرؤية إلا أن هذا لا يعني إطلاقا عدم وجوده سبحانه: فهو المعروف من غير رؤية وأحق وأبين مما ترى العيون.». [2] 

ودور الإمام الإنسان المعصوم في تكوين الكمال المدرك للمادة من حيث القدرة على التواصل بين الخيال والواقع المادي في صورته المتكاملة للتقريب من الكنه الغير مدرك بالقوى المخلوقة وذلك بمعاينة الأثر على المادة لتستشعر الحكمة والقدرة والكمال المطلق من حيث الأثر لا من حيث الصفة الحقيقية.

فجمال المخلوق واستقامة الخلقة وحكمة الصنع تنبأ بما وراء ذلك من حكمة وقدرة وجمال أبعد من الإدراك الكلي للبشر وإنما يخالجنا من معرفة وعلم يشابه ما تعكسه صورة للشيء عبر المرآة وليست هذه معرفة حقه إنما هي اعتبارية ليس إلا.

هل يملك الإنسان العادي القدرة في سبق المعصوم في أي مضمار؟

وكيف يسبق المعصوم وهو لا يملك ولا يقوى على حيازة ما أعطي المعصوم من قدرة في تحمل الرسالة واستطاعة لتلقي اختلاف الملائكة وخاصية معدن العلم؟

نَحْنُ شَجَرَةُ النُّبُوَّةِ، وَمَحَطُّ الرِّسَالَةِ، وَمُخْتَلَفُ الْمَلاَئِكَةِ، وَمَعَادِنُ الْعِلْمِ، وَيَنَابِيعُ الْحُكْمِ، نَاصِرُنا وَمُحِبُّنَا يَنْتَظِرُ الرَّحْمَةَ، وَعَدُوُّنا وَمُبْغِضُنَا يَنْتَظِرُ السَّطْوَةَ.[3] 

ألا يخل بدور القدوة المعصومة أن تتخلف في مجال ما وتنزل عن شاهق محلها، ليحتل من قبل غير المعصوم؟

بلا يخل ذلك: فإذا سبق المعصوم في أحد الكمالات من قبل غير المعصوم إنتفت نجوميته وشخوص دورة ونقص كمال الحجية وضاع النهج بين مزاعم الناس وحقائق الصدق.

والحقيقة في فرض تلك الأسئلة بالنفي تماما، فليست الحجة الإلهية إلا حجة كاملة، فلو نقصت بسبب سبق الغير المعصوم لبطل كمالها ولتوقفت عن بلاغها وصدقها، ﴿قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَالأنعام149

هل يقبل العقل أن تكون الأسوة الحجة بنسبة أقل من الكمال؟

إذا لمذا يستدعي الطبيب في مرض المعصوم؟

ولما كان العقل لا يقبل أن تكون الأسوة والحجة إلا كاملة فلا يعلل طلب الطبيب للإمام إلا تمضية لدور المختص في الناس فلا يحتج بعدم حاجة المعصوم للطبيب أو للأكل والشرب بين الناس ويطلب منافاة وترك نواميس الله في الخلق ويتكل على الغيب فلا يعمل ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ البقرة82

وهذا ما أتبعه نبي الله إبراهيم عليه وعلى نبينا وأله الصلاة والسلام حين مارس ألإقناع لقومه بتدريجهم في الفهم من المادي المنظور إلى الغيب المستور ﴿فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ الأنعام77

﴿فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ الأنعام78

وكذلك حين يشاور المعصوم قومه وهوا تام العلم والعقل والمعرفة وليس في حاجة لأن يأخذ العلم والرأي من الأقل علما وأقل عقلا ولكن ليمارس هذا الدور في التدريب وإثارة دفأن العقول، وما قول إبراهيم لربه ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ البقرة260

إلا في سياق شرعنه السؤال وترسيخ عملية التعلم وتوثيق فضيلة العلم ومن مستويات الكمال والعلوي من بني البشر مما يتبعه غيرهم من البشر كأسلوب ماجد وشريف في الحياة وطريق في طلب الكمال لهم.

وهنا يكون جواب لمذا يبقى المعصوم الخوارق ويدخرها لمناسبات ومواقف نادرة جدا، إذ يكون ذلك الادخار في الخوارق متوقفا على انسداد تمام الحجة إلا به فيكون من باب الرحمة الإلهية والنعمة والموهبة أن تكتمل الحجة بتلك الظواهر،باستثناء ملحوظ وعلى خصوصية نادرة.

ومما يعني أن يمتلك القدوة المعصوم أو الشهيد أو أيا من حجج الله في الأرض على الشفاعة والمعجزة حتى وهو في رمسه أن هذه الرحمة لا تتوقف من الله على الناس بل تستمر إلى الأحياء حتى ممن سبقهم إلى الضفة الأخرى ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ آل عمران169

وينتأ لنا البحث في خضم ذلك عن ملاحظة أدوار الحجج من الأنبياء والمرسلين وانقسامهم إلى نوعين كما يلاحظ في سيرة الأنبياء والمرسلين وألأئمة وألأولياء والقادة للناس بين المستور الموجه للحجة بالواسطة وبالوسيلة وبين المباشر والظاهر في دعوته وقيامه وذلك ما سوف نقرأه في الحلقة القادمة إنشاء الله تعالى .

وصلى الله على نبيه المصطفي الأمين وعلى اله الطيبين الطاهرين

[1]  «رواه في الكافي عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن بعض أصحابه، عن هشام بن الحكم، قال: الأشياء لا تدرك إلاّ بأمرين بالحواس والقلب، و الحواسإدراكها على ثلاثة معان: إدراك بالمداخلة، وإدراك بالمماسة، وإدراك بلا مداخلة و لا مماسة.

فامّا الادراك الذي بالمداخلة فالأصوات والمشام والطعوم.

و أمّا الادراك بالمماسة فمعرفة الأشكال من التّربيع والتّثليث، ومعرفةاللين و الخشن، والحرّ والبرد.

و أمّا الادراك بلا مماسة ولا مداخلةفالبصر، فانّه يدرك الأشياء بلا مماسة ولا مداخلة في حيّز غيره لا في حيّزه، وإدراك البصر له سبيل وسبب، فسبيله الهواء، و سببه الضّياء، فاذا كان السّبيلمتّصلا بينه وبين المرئي والسّبب قائم أدرك ما يلاقي من الألوان والأشخاص، فاذاحمل البصر على ما لا سبيل له فيه رجع راجعا فحكى ما ورائه، كالنّاظر في المرآة لاينفذ بصره في المرآة، فاذا لم يكن له سبيل رجعراجعا ويحكي ما ورائه، وكذلكالنّاظر إلى الماء الصّافي يرجع راجعا فيحكي ما ورائه، إذ لا سبيل له في إنفاذبصره، فأمّا القلب فإنّما سلطانه على الهواء، فهو يدرك جميع ما في الهواء ويتوهّمه، فاذا حمل القلب على ما ليس في الهواء موجودا، رجع راجعافحكى ما في الهواء، فلا ينبغي للعاقل أن يحمل قلبه على ما ليس موجودا في الهواء منأمر التّوحيد، فانّه إن فعل ذلك لم يتوهم إلاّ ما في الهواء موجود، كما قلنا فيأمر البصر تعالى اللّه أن يشبهه خلقه - انتهى

[2]  عقائد السنة وعقائد الشيعة - صالحالورداني ص 63: نهج البلاغة: ج 1 / 158، ج 2 / 280.

[3]  الأمام علي نهج البلاغة -وصف أهل البيت- الخطبة «109»