حين يختارك الله لتكون من زوار الأربعين
في كل عام، وعند اقتراب العشرين من شهر صفر، تشهد طرق العراق مشهدًا لا يشبهه أي مشهد على وجه الأرض؛ ملايين الأقدام تتجه صوب كربلاء، تحملها قلوب ملؤها العشق والإيمان، وأعين تفيض دموعًا وحنينًا، وألسن تلهج بالسلام على الحسين وأهل بيته الأطهار.
هي رحلة ليست كأي رحلة، فالمسافة هنا تُقاس بالخطوات المغموسة بالحب، والزمان يُختزل في لحظات الشوق، والغاية أسمى من أن يحيط بها وصف.
إنها زيارة الأربعين… أكبر تجمّع إيماني على وجه الأرض، حيث يذوب الزمان في المكان، وحيث يجتمع العاشقون من كل فجّ عميق، لا تجمعهم لغة ولا جنسية، بل يجمعهم نداء واحد: ”لبيك يا حسين“. ومن بين هؤلاء العاشقين، هناك من كُتب لهم أن يكونوا جزءًا من هذا المشهد العظيم، لا بجهدهم وحده، بل بإرادة الله واصطفائه.
روى الإمام الصادق :
”من أراد الله به خيرًا قذف في قلبه حبّ الحسين وحبّ زيارته، ومن أراد به السوء قذف في قلبه بغض الحسين وبغض زيارته.“
وقد بيّن العلماء أن هاتين الإرادتين الإلهيتين هما من الإرادة التكوينية لا التشريعية. فالإرادة التكوينية هي مشيئة الله المطلقة التي تتحقق بكلمة ”كن فيكون“، كما في خلق السماوات والأرض وسائر المخلوقات، وكما في اصطفاء الله لبعض أوليائه. ولعل أصدق شاهد على ذلك قوله تعالى:
”إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا“
هذه الآية الكريمة تؤكد أن طهارة أهل البيت وعصمتهم من كل دنس هي أمر قد أراده الله تكوينًا، فجعلهم مسدَّدين ومؤيَّدين في كل زمان ومكان، لا ينالهم نقص ولا يحيط بهم خطأ.
أما الإرادة التشريعية، فهي التي تتعلق بأوامر الله ونواهيه، كالصلاة والصوم والزكاة والحج وسائر التكاليف الشرعية. وهي أوامر موجهة للبشر جميعًا، من عمل بها نال الفلاح والثواب، ومن أعرض عنها فقد خسر وعرّض نفسه للعقاب، لأن تعطيل هذه التشريعات يفتح أبواب الفساد ويقوّض أركان العدل والكرامة، ويستبدل بهما الظلم والطغيان.
ومن هذا الفهم، ندرك أن التوفيق لزيارة الإمام الحسين ، وبالأخص في يوم الأربعين، ليس أمرًا عابرًا أو مجرد رغبة شخصية، بل هو اختيار إلهي واصطفاء تكويني، تمامًا كما خلق الله الأفلاك والكواكب وبسط الأرض وزيّنها بالمخلوقات. فمن يسير نحو كربلاء في الأربعين، هو من بين المليارات من البشر قد انتقاه الله ليكون في صفوف زوّار أبي عبدالله، وخصّه بهذا الشرف الرفيع.
لذلك، لا ينبغي لزائر الأربعين أن يرى نفسه كسائر الناس، فهو وإن كان بشرًا مثلهم، إلا أن الله قد منحه وسامًا روحيًا لا يناله إلا المصطفون، حتى وإن بلغ عددهم الملايين، فهم أمام عظمة الحسين قلة في العدد، عظماء في المقام.
إن زيارة الأربعين هي زيارة مخصوصة، لا يوفَّق لها كل أحد، بل هي دعوة ربانية تفتح قلب العبد وتشده إلى ضريح الحسين، حيث تختلط الدموع بالخطوات، ويغدو الطريق إلى كربلاء طريقًا إلى الجنة.
فهنيئًا، ثم هنيئًا لكم يا زوّار الأربعين… لقد نلتم أعظم الفوز، وربحتم ربحًا لا يقدَّر بثمن. نسأل الله أن يتقبل سعيكم، ويحفظكم في حلّكم وترحالكم، ولا تنسونا من صالح دعائكم عند الضريح الشريف.