الكتب مناطق زمنية متنوعة
بعيدًا عن عالم الكتب يعيش الإنسان حياته فحسب، مع عدد قليل أو كثير من حياة الآخرين؛ مستفيدًا من احتكاكه بهم ومن تجاربهم وما مروا به. ويعتمد مستوى الاستفادة من ذلك على مستوى من يجالسهم وتوجهاتهم الفكرية أو الاجتماعية الخاصة بمجتمعه اللصيق. لكن مجالسة الكتب تتيح للقارئ أن يقترب من شخوص متنوعة من مختلف المشارب والمذاهب ومن مناطق جغرافية متعددة، وأكثر من ذلك من مناطق زمنية متباعدة.
يستطيع القارئ أن يتنقل بين مناطق زمنية تفصل بينها مئات وربما آلاف السنين وهو مسترخ على أريكة فارهة في غرفة معتدلة الطقس ممسكًا بكتاب نوعي. والجميل في الكتاب أنه ”خير جليس“، كما قال المتنبي، و”لا يملّك“، كما قال الجاحظ.
يمكنك أن تنتقل عبر الكتاب آلاف السنين إلى الوراء وكأنك تستخدم آلة الزمن، فتقرأ لأرسطو وأفلاطون والرازي وابن سينا وابن خلدون وابن رشد وابن زيدون قبل مئات أو آلاف السنين، ثم تقرأ رواية تتحدث عن المستقبل وكأنها تستشرفه لك. كما أنه يمكنك في الوقت ذاته أن تعود إلى زمنك الذي تعيشه في أي وقت تقرر وكأنك لم تغادره.
هذه هي ميزة الكتب حين تنتقل بك من زمن إلى آخر باستخدام بساط يشبه بساط الريح في الأسطورة المعروفة، لكن الفارق أنك هنا لا تغادر مكانك بل يأتيك الزمان بتفاصيله وأفكاره، وحتى طعمه ورائحته وتفاصيل ما جرى فيه ربما أكثر من بعض ممن عاشه، حيث تفهم أولويات وهموم تلك الأزمان وتقارنها بنظيرتها في يومنا هذا، كما تفهم كيف يتغير التاريخ ويتكون الواقع في كل حقبة تاريخية.
فحينما تقرأ رواية دون كيشوت للأديب الإسباني ثيربانتس فإنك تعيش في منطقة زمنية في القرن السابع عشر الميلادي، في إسبانيا تحديدًا، وتتعرف على جانب من حياة الناس آنذاك، وتحديدًا عالم الفروسية، في جو أدبي فكاهي جميل. والرائع في ذلك أنك تقرؤها بعقلية وأفكار هذا الزمن، حيث يستخدم لفظة الدونكيشوتية للتدليل على الشخص أو الجهة التي لا تفرق بين الواقع والخيال.
أما حينما تقرأ رواية البؤساء للكاتب الفرنسي فكتور هوجو فإنك تنتقل زمنيًّا إلى القرن التاسع عشر وتعيش الحياة الاجتماعية البائسة في فرنسا بعد سقوط نابليون والثورة الفاشلة ضد الملك لويس فيليب عام 1832.
وحين تقرأ رواية الحرب والسلام للكاتب الروسي ليو تولستوي فإنك تنتقل إلى روسيا القرن التاسع عشر لتتعرف على أجواء الحرب وكذلك حياة الطبقة الأرستقراطية آنذاك.
أما حينما تقرأ ثلاثية الكاتب المصري نجيب محفوظ «بين القصرين وقصر الشوق والسكرية» فإنك تنتقل زمنيًّا إلى سنوات «1917 - 1944» إبان الاحتلال البريطاني لمصر، مع تحليل لوضع الطبقة الوسطى في مصر آنذاك، ورصد للتغيرات الاجتماعية والسياسية والفكرية هناك على مدى ثلاثة عقود.
وحين تقرأ لشكسبير فإنك تتعرف على إنجلترا القرن السادس عشر وملابسات ما حصل فيها آنذاك، بأسلوب أدبي رائع يجعلك تعيش بعض أجواء ذلك الزمن.
وحتى حينما نقرأ بعض الكتب الفكرية أو الثقافية من حقبة زمنية ما فإننا إنما نستكشف بذلك تلك الحقبة الزمنية وكأننا قد ركبنا آلة زمن أعادتنا لذلك الماضي البعيد زمنيًّا.
هذه هي الكتب حين يمثل كل منها منطقة زمنية خاصة هي أشبه ما تكون بمتحف، لكنه زمني، يكبر أو يصغر حسب حجم المكتبة.