عشق الحقيقة ج1

الحب في الله هو الحب الحقيقي , فهو حركة مدعمة بالعقل مرتبطة بالتعبد فيها لله من غير شهوة أو عصبية أو ميول.
إن مهاوي القلب وتقلبه بين الحب والبغض حالة إنسانية يكمن فيها مدار الابتلاء, كما هو الواقع في جميع حراك الإنسان وقدرته شبه الكاملة في ألاختيار وتعلق الأمانة والمسؤولية لذلك ألاختيار عليه,   ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً الأحزاب72

تقف حرية ألاختيار منصة أمام المخلوقات ليعتليها ألإنسان, ومن موقعه المختار يجاذب حبال القدرة في التغيير ويتشبث بمقود التحكم ويباشر دورا مؤثرا على سواه في الحياة.

ومن خلال هذه القدرة الفريدة تتدخل عوامل التأثير من خلال ألإنسان لتخالط وتخامر إصدار القرار متمازجة التأثير بين العقلي الصرف والعاطفي وبحدود التأثيرات المحيطة والظروف الواقعية, ولكن بتصريح ومراقبة مباشرة للإرادة ومسؤولية مناطة بذمته.فعلى المكلف أن لا يتنازل أبدا لطرف على حساب أخر من الحيثيات المتزاحمة على جذب الإرادة الحرة منه, فبالتالي هو المؤاخذ إن قصر في بلوغ الصواب بعد أن تمكن من وسيلة التمييز وبصر حد الحقيقة.

من أشد تداعيات معركة الاختيار أن يتدرع عدد من عناصر التجاذب بالمرجحات والمؤثرات العقدية أو الوصايا الدينية والأخلاقية لترجيح كفتها مستغلة ثقلها الذاتي أو النوعي بغير وجه حقيقي لها ,في مقابل توفر المعادل ألأخر على الحقيقية سواء الموضوعية أو الحكمية.

مثال ذلك أن يسند إلى شخوص الرحم في الواجبات والمستحبات ويستجلب فيه ما ورد من حض هائل من التوصيات والعناوين الشريفة في مقابل غمط حق الجهة المقابلة في عملية تمكين  لخوائية المعنى ونفخ بالون مخادع أمام وضوح المعنى بالحق والصدق, وذلك حين يميل بهذه الصورة المشوشة مع رحمه برغم ركونه للظلم وبعده عن الحق.
   
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ البقرة165
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وفي التعبير بلفظ يحبونهم دلالة على أن المراد بالأنداد ليس هو الأصنام فقط بل يشمل الملائكة,وأفراد من ألإنسان الذين اتخذوهم أربابا من دون الله تعالى بل يعم كل مطاع من دون الله من غير أن يأذن الله في إطاعته كما يشهد به ما في ذيل ألآيات من قوله﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [(1)]
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ ولم يتخذ المشركون هؤلاء ألأنداد للعبادة بل﴿ يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ [(2)]﴿مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً....وقيل:رؤساءهم الذين يطيعونهم طاعة الأرباب من الرجال.....عن السدي وعلى هذا المعنى ما روى جابر عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال:هم أئمة الظلمة وأشياعهم وقوله ﴿ يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ على هذا القول الأخير أدل لأنه يبعد أن يحبوا ألأوثان كحب الله مع علمهم بأنها لا تنفع ولا تضر. ويدل أيضا عليه قوله :﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [(3)] في ذلك يكون هذا ألاختيار المائل وبرغم تلبسه بكلمة الحق إنما يراد به الباطل وهو  بالضد من الحق سبحانه بل جعل هذا ألاختيار ندا لله في الحب.

 ﴿لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ  المجادلة22
(أي يوالون من خالف الله ورسوله)[(4)].

(نعم لا يجتمع حبان متضادان في قلب واحد, والذين يدعون إمكانية الجمع بين الاثنين,فإنهم إما ضعفاء ألأيمان أو منافقون)[(5)]

(نفي وجدان قوم على هذه الصفة كناية عن أن الأيمان الصادق بالله واليوم ألأخر لا يجامع موادة أهل المحادة والمعاندة من الكفار ولو قارن أي سبب من أسباب المودة كالأبوة والبنوة والأخوة وسائر أقسام القرابة فبين ألأيمان وموادة أهل المحادة تضاد لا يجتمعان لذلك)[(6)]

وصف حدود التمايز بين قبول حجم وكم ونسبة دخول هذا الطرف أو ذاك في ألإستأثار قد لا يكون واضح المعالم بلا مثل ونماذج تقولب وتبسط نوعية الفعل المستوجب اتخاذه أو ردة  الفعل الواجب بدئها ولذلك نرى أن النماذج  البشرية والعبر والحكم الصادرة منهم ضرورة حياتية أكيدة في رسم مساحة التفضيل و ألاختيار وكشف الواجب من منجزيه شرعية  أو خلق شريف ,وأكمل أنموذج بهذا الصدد يتمثل في أهل بيت النبوة صلى الله عليه وعليهم أجمعين .

إن تمام الحجة عبر التاريخ لا تزال سنة إلهية محكمة ورحمة متواترة من الخالق الباري جل وعلى ما فتأت تتنزل على البشر إلى يوم يبعثون كداعم ومصدر لتحرير النفس البشرية من القيود المتطرفة وإرجاعها إلى توازن الوسطية وحرية القرار و ألاختيار, لا يفت في ذلك غير إرادة الشخص نفسه في جذبها إلى أي جهة فيفقد توازنه ووسطيته أو احتفاظه بتلك الوسطية مما يدعم شرفية وجوده وكرامة إنسانيته.وقد من الله عز وجل علينا  بتمام الحجة وكمالها يوم أن قال ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ المائدة3فكان دور النبوة متبوعا بدور ألإمامة فهم بشر منتخب ومزكي ومطهر لاقتضاء تمام الحجة , فهم كمال إنساني , مضمون الفعل والقول بالعصمة وتوابعها من طهر وجمال ونجابة نسب,
فمن غير المعقول أن تكون القدوة ذات خلل في أي ناحية سواء خلقية أم خلقية , بل أبعد من ذلك يجب أن تكون متميزة في جوانبها على أهل زمانها أجمعين إذ عند توفر السبق لغيرها في فضيلة أو علم أو صفه كمالية يتسنم ذلك الغير الدور وتسقط عنها الحجية لافتقارها عن الكمال وذلك ما يكون ضياعا لمثل وقيم  ووضوح الهداية المشخصة والمعنونة  وضربا من اللهو حاشا الله عن ذلك.
أن تكون تلك المثل مترجمة في الجسم ألإنساني المعين والمنصوص عليه فذلك لضرورة عقلية من جهة إمكانية استيعاب الجسم والقدرة البشرية لسلوك مسالك تلك القدوة على أن ذلك لا ينافي شرط التميز في ضمان عدم النقص أو انتفاء نضوب المصداقية كضمانة إلهية وكمال حجة بلا ريب ولا زيغ, فأتت العصمة قاعدة محكمة ورصينة وضمانة لحقيقة القدوة بلا خلل ولا ريب ولاشك , وصفاء يوصل إلى معين الحقيقة بكل جلاء ووضوح.

وليست العصمة هي الفارق الوحيد في تنصيب القدوة وحسب فهناك ما يثبت دورها من الناحية الجسدية كمعادل ومرجح وعنوان وإظهار لدور العصمة وتدليل على محل تلك العصمة في المادة ألحامله لروح العصمة , إذ كان الإنسان ذلك التمازج من الروح والجسد لا ينفك التجاذب بينهما يرسم كيانه ووجوده على تلك الضفتين وإلا حدث ألانفصال وتغير مناط الابتلاء مما يستدعي تغيير الحكم الشرعي تبعا لتغير الموضوع وتحول الحالة .

وهذا مما يغيب على البعض حيث أنهم يقيدون العصمة بالجانب الروحي فقط ويئولون القدرة على تحصل ملكة العصمة في جانب الروح والتأدب كعمل أخلاقي  بحت بمعزل عن المشاركة الجسدية , وبهذه ألاستكشافات وحيدة الضفة يسدل الستار عن الواقع الحقيقي بمدخليه وشرط  قدرة الجسم في تحمل ثقل العصمة ,كإناء قابل لاستيعاب تلك الشفافية المتنامية في تفاعلها معه كجسد قابل ومتمكن ومستطيع على التحمل.

الغريب أن هذه الفكرة أي فكرة تمازج الجسد مع الروح وتحصلهما على ألاستعدادات الخاصة في كل منهما لتحمل العصمة الكبرى هذه الفكرة قد تغيب في حالة التطرف في قراءة نرجسية للأثر الروحي وإغفال مدخليه الجسد في توازن ألإنسان الحي واستوائه وتحصله ليكون موضوعا ألاختبار و ألابتلاء الرباني   ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ البلد4 .

إن لزوم كون القدوة في أرفع الدرجات النفسية والكمالات الجسدية هو لزوم عقلي تستدعيه الحالة الإنسانية كحالة وسط بين البهيمية والملائكية فتكون القدوة في المعصوم وبسبب موقعيه التميز فيه كقدوة قطبيه تجاذب العبرة في ألإنسان العادي بمحاكاتها لمحدوديته من جهة وتميزها في بعض الجهات لشروط القدوة الحقيقية ومصداقية التنصيب ألإلهي , فموت المعصوم وجوعه وألمه وبدايته ونهايته وغيرها من الصفات المشتركة مع ألإنسان العادي تتداخل مع عدم خطأه وسهوه ونبل أصله وطهارتيه الجسدية والنفسية لترفعه رمزا حقيقيا ومشروعا إنسانيا قابل للمحاكاة بنسبة كبيرة جدا وإن لم تكن بتمام المماثلة والمشابهة , ولو لم يكن المعصوم بهذه الصفة لكان على أحد أمرين , أما إنسانا عاديا مغروسا في المحدودية والضعف مستهلك الذاكرة وممتلئ السهو والخطأ , وأما ملاكا غير متحسس للجسد وغير مبتليا بكبد الحياة ومشقة وغلظة المادة وهذا ما لا يصيره في مقام القدوة لخروجه عن حيثيات ألإنسان أما نزولا أو صعودا على كبده ومعاناته.

   ﴿قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ الأنعام50 فعندما يكون المعصوم على القمة لايكون منقطع التأثير مع من دونه في نفس السلوك والتوجه بل هو علامة سامقة لهدف سامي ممكن ألاقتداء و ألاتصال ومضمون المصداقية وثابت الحقيقة والصدق.

ومن توقيف الحجية على المعصوم هناك أهداف لا تعرف أهميتها بغير العبرة التاريخية ,فاقتصار الدور وتوقفه على المعصوم بالقرب من الله يرسم خطا فاصلا بين الممكن وغير الممكن في ألادعاء بذلك القرب أو القول بالبنوة لله ومنصب ألأحباب له﴿وَقَالَتِ  الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ ُيعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا َيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ المائدة18 

هناك تمييز وفارق يفصل بين من تم اختيارهم واجتبائهم من الله برغم بشريتهم وبين  غيرهم مهما ترقى ذلك الغير في معالي الرفعة والشرف والعلم, وذلك كضمانه للناس في  عدم التوجه لغيرهم فحجية الغير غير كاملة بل هي جزئية ومحدودة لعدم توفر ضمانة  العصمة وعدم التحصل على كل الكمالات ولو قد تحصل الكثير أو جلها لديهم فذلك لا  يخولهم للتقولب في قالب الحجة البالغة , بل أن غير المعصوم مهما تحصل من رقي الروح  يبقي دون المعصوم فبالتالي لا يكون حجة بالغة بل حجة مقتصرة فيحدود كمالاتها ومساحة تألقها .

هل يملك ألإنسان القدرة في سبق المعصوم في أي مضمار؟
هل يقبل العقل أن تكون ألأسوة الحجة بنسبة أقل من الكمال؟
إذا لمذا يستدعي الطبيب في مرض المعصوم؟
لمذا يشاور المعصوم قومه إذا كان تام العلم والعقل؟
لمذا يبقى المعصوم الخوارق ويدخرها لمناسبات ومواقف نادرة جدا؟
ما معني أن يمتلك القدوة على الشفاعة والمعجزة حتى وهو في رمسه؟

هذه وبعض غيرها سوف نمر عليها في الحلقة القادمة إنشاء الله تعالى وصلى الله على نبيه المصطفي الأمين وعلى أله الطيبين الطاهرين

[(1)] الطباطبائي الميزان في تفسير القرآن ج1 ص337.
[(2)] ناصر مكارم الشيرازي ألأمثل ج1 ص338.
[(3)] الطبرسي مجمع البيان ج2 ص65
[(4)] الطبرسي مجمع البيان ج6 ص19
[(5)] ناصر مكارم الشيرازي ألأمثل ج14 ص47.
[(6)] الطباطبائي الميزان في تفسير القرآن ج 19ص172