أبو المصطلحات
عاد فؤاد إلى قريته بعد خمس سنوات قضاها في بعثته الدراسية، وكان أهل القرية في انتظاره بلهفة، فقد خرج من بينهم شابًا طموحًا، وعاد إليهم حاملًا شهادة مرموقة. احتفلوا به كما يليق بابنهم العائد، وأقاموا له حفل استقبال كبير، حيث تجمّع الصغير والكبير، يغمرهم الفخر بهذا الشاب الذي عاد مُحمّلًا بالعلم والمعرفة.
وقف فؤاد لإلقاء كلمته وسط تصفيق الحاضرين، لكن سرعان ما تحولت نظراتهم إلى الدهشة والاستغراب. انطلقت من شفتيه عبارات غريبة، متخمة بمصطلحات لم تألفها آذانهم. كان يتحدث بحماسة، يلوّح بيديه، بينما أخذ الحاضرون يتبادلون النظرات المتحيرة. لم يفهموا شيئًا! حاول البعض مقاومة الضحك، فيما لم يتمالك آخرون أنفسهم، فانفجروا ضاحكين. أنهى فؤاد كلمته ليجد نفسه أمام قهقهات مكتومة ووجوه تحاول عبثًا كتمان ابتسامتها.
كان مقتنعًا بأن استخدامه لهذه المصطلحات الثقيلة يجعله يبدو أكثر ذكاءً، فاستمر في التحدث بها في كل مجلس، غير آبه بنظرات التعجب التي تلاحقه أينما ذهب.
في أحد الأيام، جلس في المقهى بين رجال القرية، وقرر أن يُثري حديثهم بنظرياته الفلسفية، فقال بصوته الجهوري:
"مشكلتنا تكمن في هيمنة البرجوازية على وسائل الإنتاج، مما يجعل البروليتاريا في وضع استغلالي بحت!"
ساد الصمت، ثم قطعه العم محمود، صاحب المقهى، وهو يتكئ على طاولته متسائلًا:
"يا فؤاد، هل تقصد أن أسعار الشاي ارتفعت؟"
ارتبك فؤاد، ثم قال متلعثمًا:
"إيه... نعم، ولكن ضمن إطار أيديولوجي أعمق!"
عندها، انفجر الجميع ضاحكين، وقال أحدهم مازحًا:
"يعني باختصار، البروليتاريا تريد شايًا بسعر أرخص!"
وفي مناسبة أخرى، اجتمع أهل الحي لمناقشة توسيع المسجد، فوقف فؤاد، نافخًا صدره، وقال بحزم:
"يجب أن نحسم الأمر وفق مبدأ الديمقراطية، فالشعب يحكم نفسه بنفسه، وهذه هي قمة الحرية!"
ضحك العم خليل وقال مازحًا:
"حسنًا، ولو قررت الأغلبية أن تبني المئذنة وسط السوق بدل المسجد، فهل هذا منطقي؟"
تلعثم فؤاد، ثم قال مترددًا:
"إممم... هنا يأتي دور التكنوقراطية لضبط القرار، حيث الخبراء هم من يحددون!"
ضحك أحد الشباب قائلًا:
"يعني نحن نقرر، ثم يأتي غيرنا ليقرر عنا؟!"
ومنذ ذلك اليوم، صار البعض يناديه بـ"الديمقراطي التكنوقراطي"!
وذات صباح، ذهب فؤاد إلى السوق ليشتري الطماطم، لكنه فوجئ بارتفاع سعرها، فصرخ غاضبًا:
"هذا استغلال طبقي! البرجوازية تسيطر على السوق وتستغل البروليتاريا!"
نظر إليه البائع باستغراب، ثم قال ببرود:
"يا أستاذ، أنا مجرد بائع طماطم، لست من يحكم العالم!"
وتدخل أحد الواقفين ضاحكًا:
"يا فؤاد، اشترِ الطماطم ولا تعطي البائع درسًا في الإمبريالية!"
احمرّ وجه فؤاد، ودسّ الطماطم في كيسه، وغادر وسط قهقهات الحاضرين.
لكن القشة التي قصمت ظهر المصطلحات كانت في إحدى الأمسيات، عندما اجتمع رجال الحي في ديوان الحاج صالح. وكعادته، أسهب فؤاد في الحديث عن مخاطر الإمبريالية والاستعمار الجديد، يلوّح بيديه بحماسة، حتى قاطعه العم خليل بابتسامة ماكرة، قائلًا:
"طيب يا فؤاد، بما أنك تعرف كل هذه المصطلحات، هل يمكنك أن تشرح لنا ببساطة كيف نحصل على كيلوغرام إضافي من الطحين من المطحنة بدون أن ندفع أكثر؟"
تجمّد فؤاد في مكانه، واحمرّ وجهه، ثم تمتم قائلًا:
"هذا... هذا موضوع معقد، يحتاج إلى تحليل أيديولوجي عميق!"
ضحك الجميع بصوت عالٍ، وربّت أحدهم على كتفه مازحًا:
"يبدو أن البروليتاريا في قريتنا تحتاج إلى طريقة أكثر عملية من الكلام الطويل!"
ومنذ ذلك اليوم، بدأ فؤاد يختار كلماته بعناية... على الأقل عندما يكون العم خليل حاضرًا!