تفاءلوا بالخير تنالوه

في المقال السابق عرّفنا معنى الثالوث الشرس المتمثل في ”الشك والتردد والبطء في التنفيذ“ ذلك العدو الخفي الذي يسرق الاحلام ويقيد الطموح، أما اليوم فموعدنا مع فجر جديد وثالوث مختلف قادر على تحويل الركود إلى انطلاقة، والخوف إلى شجاعة، والاحلام إلى واقع، ثالوث يبعث الحياة من جديد ويقود الانسان نحو التقدم والانجاز يتمثل في ”الوقت والمعرفة والتغيير“

فالوقت هو المورد الثمين الذي نملكه جميعا لكنه يمضي بسرعة لا تعود، وكما قال ستيفن كوفي ”وهو كاتب وخبير أمريكي في مجال القيادة والتنمية الشخصية، اشتهر بكتابه“ العادات السبع للناس الأكثر فعالية ”ومؤسس لمؤسسة“ كوفي للتدريب والاستشارات ”التي ركزت على تحسين الأداء الفردي والمؤسسي، كما عُرف برؤيته حول تعزيز الفعالية الشخصية والتنظيمية من خلال تطوير العادات الإيجابية“ الوقت مورد نادر وإذا لم تديره بشكل جيد، فلن تتمكن من إدارة أي شيء آخر ”وفي قول آخر“ الوقت هو الشيء الوحيد الذي يفرق بين الناجحين وغيرهم

أما المعرفة فهي المفتاح الذي يفتح أبواب الوعي والإدراك فتُحول الأفكار إلى رؤى والطموحات إلى خطط أو الوقود الذي يحرك عجلة التقدم، وكما قال فرانسيس بيكون وهو فيلسوف انجليزي ورجل دوله وعالما، ويُعتبر أحد الشخصيات البارزة في عصر النهضة الأوربية ”من يملك المعرفة يملك القوة للتغيير“ وفي قول آخر ”بدون المعرفة الحياة مجرد ظل قاتم“ ومع هذا التلاحم بين الوقت والمعرفة ينبثق التغيير الذي هو القدرة على التكيف مع الظروف والابتكار في مواجهة التحديات والتحول الإيجابي في الفكر والسلوك كأثر لا مفر منه، يقود إلى تحسين الذات وتطوير المجتمعات وبناء المستقبل إلى الأفضل، إنه دعوة للنهوض والتحليق لتحقيق ما كان يوما يبدو بعيد المنال، فدعونا نتفاءل بالخير وننطلق معا لاكتشاف كيف يمكن لهذا الثالوث الإيجابي أن يصنع فرقا حقيقيا في حياتنا ويُعيد تعريف المستحيل

تعريف الثالوث الإيجابي

إن الثالوث الإيجابي كما فهمته أنا هو مزيج من الوقت والمعرفة والتغيير، وهو إطار فكري يركز على العناصر الأساسية التي تمكن الأفراد والمؤسسات من تحقيق النجاح والتطور المستدام، كما ويمكن أن يعبر هذا الثالوث عن الأدوات التي إذا استغلت بفعالية وكفاءة يمكن أن تقود إلى التميز والنمو في مختلف جوانب الحياة

وفي تعريف آخر: قالوا: إنه إطار حياة قائم على استثمار الوقت بذكاء واكتساب المعرفة بوعي، واحتضان التغيير بشجاعة لتحقيق النجاح الشخصي والمؤسسي

ولكن ما الذي يدفع البعض من الناس للتمسك بقيود الثالوث الشرس «الشك، التردد، والبطء» بدلا من التحرر والسير نحو أفق الثالوث الإيجابي «الوقت، والمعرفة، والتغيير»؟ "

تقول النظريات النفسية، والدراسات السلوكية أن التشبث بالثالوث الشرس، والابتعاد عن الثالوث الإيجابي غالبا ما يعود في حقيقته إلى الأسباب التالية وهي: 

أولاً - الخوف من المجهول

وفقا لنظرية إدارة الخوف: وهي نظرية نفسية اجتماعية طُوّرت لأول مرة في ثمانينيات القرن العشرين على يد جيف جرينبرج وشيلدون، وتركز هذه النظرية على كيفية تأثير الخوف من الموت أو المجهول على السلوك البشري، وتُظهر أن البشر يطورون استراتيجيات نفسية وسلوكية للتعامل مع القلق الناتج عن الإدراك الحتمي للفناء، ولفهم هذه النظرية يمكن أن نقول أن الخوف هو الدافع الأساسي للسلوك البشري مثل الخوف من الفشل أو المجهول يجعل الافراد يميلون إلى التردد والشك والبطء في اتخاذ الخطوات الجديدة، وفي دراسة منشوره في مجلة personality and social "psychology review تشير إلى أن الافراد يفضلون البقاء في مواقف معروفة حتى لو كانت غير مريحة لتجنب القلق المرتبط بالمستقبل

ثانياً - التسويف كآلية نفسية

وفقاً لنظرية التفضيل الزمني وتعني ان الافراد يفضلون الحصول على مكافآت قصيرة المدى بدلا من الفوائد طويلة الأجل، وقد أظهرت دراسة من جامعة ستانفورد تقول " أن التسويف مرتبط بالدماغ البشري الذي يميل إلى تأجيل المهام التي تتطلب جهداً عقلياً كبيراً أو تلك التي لا تقدم مكافآت فورية، ولذلك يصبح البطء في التنفيذ نتيجة مباشرة لهذا النمط، حيث يُفضل الافراد الراحة المؤقتة على الجهد المطلوب للتغيير

ثالثاً - نقص الحافز الداخلي أو الطاقة الداخلية

وفقاً لنظرية التحفيز الذاتي: وهي نظرية تنص على أن الافراد يحتاجون إلى الشعور بالكفاءة والاستقلالية والانتماء لتحفيزهم نحو التغيير، كما أكدت على ذلك الدراسة من جامعة روتجرز التي تقول إن غياب هذه العوامل يجعل الافراد يفتقرون إلى الدافع الداخلي، مما يدفعهم للبقاء في حالة تردد وشك

رابعاً - تأثير البيئة المحيطة

وفقا لنظرية التعلم الاجتماعي، حيث أشار ألبرت باندور إلى ان السلوك البشري يتأثر بالنماذج المحيطة، إذا كانت البيئة مليئة بالتردد أو النقد، وفي دراسة نشرت في journal of Behavioral Decision making أن الافراد يتأثرون بسلوكيات المجموعة، حيث ينتشر التردد والبطء في بيئات غير محفزة

كيف يمكننا أن نكسر هذه القيود المتمثلة في الشك والتردد والبطء، ونعبر نحو الثالوث الإيجابي؟

لقد أشرنا فيما مضى أن الثالوث الشرس ليس إلا سلسلة نفسية مترابطة لكنها ليست مستحيلة الكسر، ويكمن الحل في إدراك طبيعة التداخل والتشابك بين هذه العناصر، وفي فهم أن كل خطوة إيجابية نحو أحدهما قد تؤثر على البقية وقد بدأنا ببناء الثقة كأولوية لتقليل الشك لإنها الشعور الداخليّ والاطمئنان من أنك تستطيع إنجاز المهام الموكلة إليك أو أهدافك الخاصة في جميع مراحل حياتك، وهي بمعنى أن يعرف الإنسان نفسه جيدا، وأن يعرف نقاط الضعف لديه ويتغلب عليها كما هي أن يستطيع الإنسان موازنة خطواته وتحركاته من أجل حياة أفضل، فالشخص الذي يتمتع بالثقة بالنفس يُحب عموما نفسه، وهو على استعداد لتحمل المخاطر لتحقيق أهدافه الشخصية والمهنية، ويفكر بشكل إيجابي في المستقبل، بينما الأشخاص الذين يفتقرون إلى الثقة بالنفس هم أقل عُرضة للشعور بأنهم يستطيعون تحقيق أهدافهم، ويميلون إلى امتلاك وجهات نظر سلبية عن أنفسهم وقدراتهم. مثل قول ”لا أستطيع أن أفعل ذلك“، ”سأفشل بالتأكيد“ وما شابه ذمع الإشارة إلى الفرق بين الثقة بالنفس والغرور فكلاهما ينبعان من تقدير الذات لكن الفارق بينهما كالفرق بين البناء والهدم، فالثقة بالنفس هي تلك الطاقة التي تدفعك للأمام وتبني شخصيتك ومهاراتك دون المبالغة فيها، أما الغرور فهو تضخيم الشخص لنفسه وقدراته بشكل مفرط ومبالغ فيه دون سند حقيقي من الإنجازات أو القدرات الفعلية، تماما كفقاعة صابون تبدو لامعة وجذابة للوهلة الأولى لكنها فارغة من الداخل، أو كبرج من ورق قد يبدو شامخا من بعيد لكنه ينهار بسهولة عند أول ريح لأنه بلا أساس حقيقي

الثالوث الإيجابي والعلاقات المتداخلة

فبينما يعتمد الثالوث الشرس على تعطيل الوقت وإثارة الشكوك وزرع التردد، يعمل الثالوث الإيجابي على تنظيم الوقت واكتساب المعرفة وقيادة التغيير، فالوقت المُدار بحكمة من قبل الافراد أو المؤسسات يُتيح فرصا للمعرفة، والمعرفة تُصبح القوة الدافعة للتغيير، وعندما تعمل هذه العناصر بتناغم مع بعضها البعض يتحول الإنسان إلى قوة إيجابية تسير بثبات نحو النجاح والنمو. والقرار يعود إلى الانسان نفسه فهل يستسلم لقيود الماضي التي يفرضها الثالوث الشرس أم يتحرر منها لينطلق نحو أفق جديد تدعمه طاقة الثالوث الإيجابي

والسؤال المحوري الآخر الذي يفرض نفسه هو كيف يمكننا تفعيل دور الثالوث الإيجابي لتحقيق تأثيرات ملموس ومستدامه في تحسين حياة الافراد والمؤسسات؟

ولأن الثالوث الإيجابي لا يُبنى على المصادفة أو العشوائية، بل على اُسس مدروسة ورؤية استراتيجية واضحة تأتي أهمية الخطوات التالية

1 - اعتماد ثقافة لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد

الحياة فرص متعددة وقليل من البشر يعرفون كيفية استغلالها والاستفادة منها، ولذلك نجد صنفا منهم ماهرا في تضييعها ومحبطا لذاته ولمن حوله، يعيش في دائرة الفراغ واللامبالاة، ويستهلك وقته فيما لا ينفع ولا يُفيد ويقضي أيامه دون هدف أو غاية واضحة، وهؤلاء البشر رضوا من الحياة بالبقاء أحياء دون أن يكلفوا على أنفسهم البحث عن فرصها ومنافعها، وفريق أخر من البشر وهم الواعون بأهمية الفرص وقيمة الوقت فتراهم يخططون بدقة ويعملون بجد واجتهاد ويسعون نحو تحقيق أهدافهم بثبات، وهؤلاء هم من يملكون مفاتيح المستقبل، ويصنعون التاريخ، ويؤثرون في حياة الاخرين.

2 - اعتماد ثقافة التعلم الذاتي المستمر

لا جدال في أن التعليم الذاتي يمثل أحد أهم الأسس التي تعزز من قدرة الإنسان على التكيف مع التغيرات السريعة في هذا العصر المسمى بعصر الثورة الرقمية أو عصر التكنولوجيا المتقدمة فهو يمنح الفرد الأدوات اللازمة لتطوير نفسه، واكتساب المهارات الجديدة لمواكبة التحولات المستمرة، فعلى سبيل المثال وليس الحصر الشاب الذي يسعى لتعلم اللغة الإنجليزية لتحسين فرص عمله يمكنه اليوم الاعتماد على تطبيقات تعليم اللغة التي توفر دروسا تفاعلية، وممارسة مهارات الاستماع والقراءة والكتابة والتحدث بأسلوب مرن يناسب جدوله اليومي بأقل تكلفة ودون الحاجة إلى الالتزام بمواعيد صارمة أو حضور دروس تقليدية، أو ذلك الشاب الذي يرغب في تغيير مساره الوظيفي من المحاسبة إلى البرمجة على سبيل المثال فما عليه إلا أن يعتمد على التعليم الذاتي من خلال الدورات التدريبية عبر الانترنت وهكذا، فهو تماما يشبه النهر الذي يشق طريقه بين الصخور الصلبة ليتجاوز العقبات بصبر واستمرارية حتى يصل إلى هدفه

3 - اعتماد ثقافة التغيير

في زمن تُعاد فيه صياغة قواعد النجاح وفق معايير جديدة تتجاوز حدود الإنجازات التقليدية، يصبح التغيير ضرورة حتمية لا تُفرض علينا بل نصنعه بأنفسنا، فالنجاح اليوم لا يُقاس فقط بما نحققه من نتائج مادية بل بقدرتنا على استثمار الوقت بفعالية، وتسخير المعرفة لصالح التطوير وتحويل التغيير إلى قوة دافعة نحو تحقيق الأهداف

وختاما: يمكن القول إن الانتقال من تأثير الثالوث الشرس إلى تبني الثالوث الإيجابي يمثل نقطة تحول محورية نحو بناء حياة ذات قيمة ومعنى، فمن خلال إدارة الوقت بذكاء نُحسن استغلال الفرص، وباستخدام المعرفة نبتكر الحلول ونواجه التحديات، وبإدارة التغيير نصنع الفرق ونرتقي بمساراتنا نحو المستقبل الأكثر إشراقا