حين يوقظ الألم إرادة الحياة

مشكلتنا مع الطعام ليست في حاجتنا له، بل في تلك السيطرة الخفية التي يمارسها علينا؛ إغراءات لا تقاوم، أطباق تحمل ألواناً جذابة، روائح تلامس أعماقنا، وتجعلنا نشتهي المغامرة دون تفكير في العواقب.

ذات يوم، وجدته مستلقياً على السرير الأبيض. ملامحه لم تعد كما عرفتها؛ نحيفاً شاحباً، وقد أرهقه المرض. ترددت في البداية، ثم قرأت الاسم على بطاقة بجوار السرير، فطابقته بذلك الوجه الذي أعرفه. نعم، إنه محمد. محمد الذي كان يزورني سابقاً في العيادة.

”أهذا أنت يا محمد؟“ سألت وأنا أحاول استيعاب ما أراه.

أجابني بنبرة مملوءة بالأسى: ”نعم، أنا هو، ولكن ما تراه أمامك ليس إلا حصاد ما تجاهلته من نصائحك. كنت أظن أن الأمر مجرد مزاح مع السكري؛ يوم أتغلب عليه، ويوم ينتصر هو، لكن الحقيقة أنه كان دائماً المنتصر.“

كان يتحدث وملامح الألم تعلو وجهه، ثم أردف: ”أتدري مما أعاني الآن؟“

”ألست تعاني من السكري؟“ سألته.

ابتسم ابتسامة باهتة وأجاب: ”ذاك كان قديماً، أما الآن فقد أضاف المرض إلى سجله التهاب الكلى.“

لمعت دمعة في عينيه، وصمت للحظة، بينما غمرني شعور بالأسى. حاولت أن أتمالك نفسي وقلت: ”لا بأس عليك، دعني أطلع على الفحوصات. ربما يكون هناك خطأ في التشخيص، فالأخطاء واردة، يا صديقي.“

بدأت أقلب ملفه الطبي، أبحث بين الأوراق عما يمكن أن يمنحنا بصيص أمل. كانت النتائج تشير إلى بدايات التهاب الكلى، ولكن ذلك لم يكن حكماً نهائياً. شعرت بشعلة أمل تتوقد داخلي. عدت إليه مبتسماً وقلت: ”نعم، نتائج الفحوصات تؤكد ما قلت، ولكن يا محمد، هذا لا يعني أنك ستنتهي إلى غسيل الكلى. هناك أمثال حالتك ممن تغلبوا على هذه المحنة بالتزامهم بالحمية والعلاج المناسب.“

نظر إليّ بنظرة تجمع بين الأمل والشك، وسألني: ”ومتى أستطيع التغلب على المرض؟“

سحبت كرسياً وجلست بجواره وقلت: ”كل شيء يعتمد عليك. أمراضنا يا محمد كأنها شركاء حياة؛ تحتاج إلى تعامل خاص وصارم أحياناً. الحمية التي وصفناها لك ليست عبثاً، إنها محسوبة بدقة وفقاً لحالتك. عليك أن تتعامل معها بجدية.“

ثم أضفت: ”مشكلتنا الكبرى أننا لا نفكر فيما نأكل. نسأل أنفسنا لماذا نأكل؟ هل فقط لإشباع الجوع؟ بالنسبة لك، الأمر أعمق. طعامك هو أداتك لتنظيم السكر في الدم. إهمال وجبة قد يخفض السكر إلى مستوى خطير، بينما الإفراط قد يرفعه إلى درجة مدمرة. كل لقمة تضعها في فمك يجب أن تكون محسوبة، مدروسة.“

أخذت أشرح له كيف أن التفكير في الطعام ليس رفاهية، بل ضرورة، خاصة لمن يعانون من أمراض مزمنة. أخبرته كيف أن التهاون قد يقوده إلى فخ المرض، وكيف أن الانضباط يمكن أن يكون طوق نجاته.

نظر إليّ مطولاً، وكأن كلماتي أضاءت له طريقاً جديداً، ثم قال بحزم: ”لقد قررت. من الآن فصاعداً، سأفكر في كل لقمة أتناولها. سأضع ورقة كبيرة في المطبخ مكتوب عليها: فكر ثم فكر فيما تأكل.“

ابتسمت بفخر وحييته على هذا القرار. قلت له: ”هذه هي الروح التي تحتاجها، يا محمد. قاوم المرض بعقلك وروحك. أريد أن أراك قريباً، ولكن في مكان آخر غير المستشفى.“

خرجت من الغرفة وأنا أشعر أنني لم أعالج مريضاً فقط، بل أيقظت بداخله إرادة الحياة.

أخصائي التغذية العلاجية