اعتقال العقل

وليد سليس

لعبت الكنيسة منذ ستة قرون دورا بشعاً في التضييق على حرية الرأي و التعبير، نقرأ لأحد الرهبان وصفه الآراء التنويرية بأنها تهدد النظام الاجتماعي و الأخلاق و الدين، و آخر يصفها بأنها أسوء من الدعارة.

و نجد رأس الكنيسة البابا إنوسان الثامن يصدر أحكاما بمراقبة المطابع و منع نشر أي كتاب دون موافقة الكنيسة، بل وصل الأمر في القرن الثامن عشر إلى وضع تشريعات بمعاقبة صاحب المطبعة و النفي للكاتب. و بسبب تأثير الكنيسة و جدنا الملك الفرنسي لويس الخامس عشر يعمل بحكم الإعدام للكتاب و لأصحاب المطابع و المكتبات و المروجين للكتابات التي تتجه إلى مهاجمة الدين و تحريض النفوس و خرق سلطة الملك و تشويش النظام في مناطقه.

هكذا توسع الحجر على الرأي و التعبير من عدم التعرض إلى الدين إلى مساحة أوسع و هي عدم التعرض للحاكم !!
في مقابل ذلك كان هناك حركة دؤوبة لتعميق الحريات الأساسية ومنها حرية الرأي ، و هو ما أطلق عليها لاحقا حركة التنوير ، فبالرغم من الأذى الذي لحق بفلاسفة و كتاب التنوير إلا أنهم صمدوا للرقي بالفكر الإنساني و جعل العقل و ما ينبثق منه مكان لا يجب التعدي عليه إلا في حدود ضيقة جدا ، و من هنا و جدنا في فرنسا أن الجمعية الوطنية الفرنسية في 26 أغسطس 1789 أقرت إعلان حقوق الإنسان و المواطن و الذي ينص في مادته الحادية عشر " إن حرية نشر الأفكار والآراء حق من حقوق كل إنسان. فلكل إنسان أن يتكلم ويكتب وينشر آراءه بحرية. ولكن عليه عهدة ما يكتبه في المسائل التي ينص القانون عليها. " .

هذه المادة بهذا الوضوح أصبحت ملهمة للعديد من التشريعات التي أكدت على حرية الرأي و التعبير و فتحت آفاق واسعة للكثير من المثقفين الذين كان يخشون أن يتعرضوا للأذى نتيجة ما يحملوه من أفكار تجديدية أو المعارضة السياسية عندما توجه نقدا للسلطات الحاكمة .
ما جرى قبل خمسمائة سنة في أوربا ، نراه حاضرا في دولنا العربية ، فأصبح من يبد رأيا, تتقاذفه الألسن بأبشع الألفاظ و أما إذا اتصل النقد بالسلطات الحاكمة فسيكون مصيره في أقل الأحوال السجن !!

الكويت البلد الخليجي الذي يعتبر من البلدان العربية الذي شرع منذ الستينات في دستوره للحريات السياسية و تكوين الجمعيات و النقابات وحرية الرأي و التعبير و الصحافة و الطباعة و النشر ، لم تكن مثل هذه التشريعات مجرد حبر على ورق ، بل عندما تقرأ الصحافة في الكويت تجد هامشا كبيرا من الحرية ، و كذلك يمكنك أن تجد ذلك داخل قبة البرلمان و في التلفزيون ، بل كانت الكويت عريقة في نشر الثقافة و من منا لم يقرأ مجلة العربي .

كل هذا لم يشفع للمحامي و الكاتب محمد عبد القادر الجاسم أن يكون عرضة للاعتقال التعسفي و التعرض للتوقيف لمدة 49 يوما نتيجة آرائه السياسية . ما تعرض له الجاسم في بلد يصون الحريات قانونا و عملاً ، يعكس مدى القلق الذي تعيشه السلطات الحاكمة من الرأي الناقد ، و كيف أن الحاكم يخترق القانون عندما يصل النقد إلى عمله !!

و في لبنان البلد العربي الذي تتوافر فيه حريات لا تتوافر في أي بلد عربي نجد السلطات قبل أيام قامت باعتقال شبان لمجرد أنهم قاموا بنقد الرئيس اللبناني في الفيس بوك ، و في السعودية لا يزال المدون منير الجصاص معتقل تعسفيا لأنه قام بالتعبير عن رأيه في موضوعات متصلة بقضايا التمييز ضد الشيعة في السعودية ، أما في مصر فلا يتم الاكتفاء بمن يعارض السلطات بأن يتم سجنه أو اعتقاله بل يتم تعذيبه إلى الموت ، و كلنا سمعنا قصة الشاب المصري خالد و الذي بسبب محاولته كشف بعض الممارسات الفاسدة من رجال الأمن تم تعذيبه وتهشيم رأسه حتى الموت ، و في اليمن لا يمر يوم إلا و هناك تعد سافر من قبل الحكومة على حرية الرأي بل يصل إلى ممارسة الإخفاء القسري بحق النشطاء و هذا ما حدث مع المعارض محمد المقالح ، و دولنا العربية الـ 22 تضج بالممارسات العدوانية تجاه حرية الرأي و التعبير  ، بل بعض الممارسات تصل إلى كونها ممنهجة و تتناسب مع حالة الاستبداد الذي يعيشه العالم العربي ، فمشاركة المواطن العربي في رسم السياسات السياسية و الاقتصادية و الثقافية و الاجتماعية ضئيل جداً ، أما مشاركته في القرار السياسي و في المناصب الحكومية العليا تبقى أقرب إلى العدم! مثل ذلك يخلق قلقا لدى الحكومات من الآراء المختلفة لأنها بشكل أو آخر تفتقد إلى الشرعية السياسية (legitimacy) .

في المقابل، الحكومات المنتخبة من الشعب و التي تؤمن بنظرية العقد الاجتماعي( Social Contract) تقبلها أكثر لحرية الرأي و التعبير بل هو أمر لا بد منه للعيش الكريم  ، لأنها تؤمن أن مبدأ المساواة و مبدأ حرية الرأي و التعبير متلازمان فلا يمكن فصلهما ، فمجرد إلغاء حق التعبير هو خروج عن مبدأ المساواة وهو خلاف العدل و الحكم الرشيد ، بل الالتزام بكلا المبدأين هو أساس لحماية الديمقراطية و زرع الأمن و هو المدخل الأساس للتنمية الاقتصادية و الثقافية و السياسية .

الحفاظ على حرية الرأي و التعبير يعتبر مقوم ضروري للترويج للسلم الاجتماعي و الحفاظ على التنوع و التعدد الذي تتميز به بلداننا العربية ، بل هو مفتاح الاستقرار السياسي خصوصا في بلداننا العربية التي تفتقد إلى الديمقراطية ، فعندما لا يتمكن المواطن من المشاركة السياسية في بناء وطنه ، فأقلها يجب أن تصون الحكومات العربية حق الأفراد بأن يعبروا عن آرائهم بكل حرية وأن لا تمارس الحكومات لغة التهديد و الترهيب ، و إلا تحول المواطن إلى بؤرة قابل للتفجر في أي لحظة عندما يجد أن القمع يصاحبه في كل مكان، فيمنع من تمكينه من الوصول إلى المعلومات و لا يتاح له الكتابة في الصحف المحلية ، و تمنع كتبه من التداول ، و يحجر عليه بأن لا يصعد منبرا و لا يكتب مطلقا إلا في باب النكت و الألغاز !! و الأبشع عندما يرى جميع العالم يخرج في مظاهرات في قضايا إنسانية و هو مكتوف اليدين لأن الخروج في مظاهرة جريمة لا تغتفر يعاقب عليها القانون .

مؤسسات المجتمع المدني و المجتمع المدني يعيشان تحدياً كبيرا في مواجهة الخطر القائم الذي تقوم به الحكومات العربية من التضييق على الآراء و تجريم المثقفين و المناضلين على أفعال هي مشروعة ضمن القانون الدولي الذي حرص و أكد على هذا الحق في الكثير من القوانين ضمن اتفاقيات دولية مختلفة ، بل يمكن القول أن حرية الرأي و التعبير جزء لا يتجزأ من القانون الدولي سواء كان من جهة إعداد النص القانوني و صياغته و مناقشته و توقيعه و المصادقة أو الانضمام ، أو من جهة اعتبار ذلك جزء من القانون الدولي العرفي الذي يعتبر عابرا للحدود بحكم كون ذلك جزء من الممارسة الفعلية التي دأبت عليها الدول من جهة و نية قبول تلك الممارسة من جهة أخرى .
هذا التحدي يجب مواجهته بمزيد من الصبر و الكثير من العمل السلمي الجاد سواء من ناحية حض الحكومات على تشريع قوانين لحماية هذا الحق و معاقبة القائمين على تنفيذ القوانين عندما يمارسون سلطتهم خارج القانون في استدعاء الأشخاص و معاقبتهم، و جرمهم الوحيد أن لديهم رأي مختلف لا يصب في صاحب السلطة السياسية أو الدينية .

و من جهة أخرى التشديد على أن حق الإنسان في ممارسة حريته في مجال الرأي و التعبير هو حق طبيعي للإنسان فلا يجب على المرء أن يتنازل عنه مهما كلف الأمر ، فمهما كانت درجة التهديدات و الوعيد و الأذى يجب أن نفكر في مدى الخطر الذي يمكن أن يحدث نتيجة تنازلنا عن هذا الحق الذي كفلته جميع الشرائع و قرره العقل الإنساني فأصبحنا نشعر بقيمته في ممارسة التغيير الاجتماعي و في التطور الإنساني الذي صاحب إتاحة الفكر للتفكير بحرية من دون عوائق مبنية على الدين أو القانون .

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
فائق المرهون
[ القطيف - ام الحمام ]: 1 / 7 / 2010م - 1:10 م
الأستاذ وليد / وفقه الله
وهل التضييق وكبت الحريات حكرا فقط على الكنيسة كمفهوم ديني صرف ؟
ماذا عن السلطة الدينية في المؤسسة الشيعية أو السنية هل هي مثال للعيش المشترك واحترام الفكر الآخر , للنظر فقط ماذا حصل للمخالفين في الانتخابات الإيرانية الأخيرة , أما بلادنا فحدث ولاحرج !!