رثاء الحاج الملا علي راضي الطلالوة: حين يرحل النبل ويترك أثره
- الملا علي راضي الطلالوة: غياب الجسد وبقاء الروح في ذاكرة المحبين
هناك لحظات تعصف بالروح وتترك في القلب جرحًا لا يندمل بسهولة، لحظات يُفجع فيها الإنسان بفقد عزيز كان جزءًا من حياته، يستمد منه القوة والإلهام، فإذا به يرحل فجأة، دون وداع، تاركًا فراغًا لا يُملأ إلا بذكراه الطيبة وسيرته العطرة. هكذا كان وقع خبر رحيل الحاج الملا علي راضي الطلالوة،“أبو الحسنين”، الذي باغتتنا وفاته وترك فينا ألمًا لا يوصف وحسرة عميقة.
غادرنا دون أن يُمهلنا لحظة لنستعد لفراقه، ودون أن نُلقي عليه نظرة أخيرة. كان بيننا بالأمس، حاضرًا بروحه الطيبة وابتسامته المعهودة، يشاركنا الحديث ويملأ المكان بهجة ودفئًا، ثم غاب فجأة، تاركًا وراءه ذكرى لن تُمحى من قلوب كل من عرفه وأحبه.
مسيرة حافلة بالعطاء والعمل التطوعي
لم يكن الحاج الملا علي راضي الطلالوة مجرد رجل عابر في حياة الناس، بل كان رمزًا للعطاء والخدمة المجتمعية، شخصية نادرة اجتمعت فيها سمات العلم والإنسانية. بدأ حياته موظفًا في القطاع الحكومي، ثم انتقل للعمل في القطاع الخاص، حيث جمعتني به زمالة استمرت لأكثر من 15 عامًا في بنك سامبا، بدايةً في الرياض ثم في الخبر. كان حضوره في العمل مختلفًا، لا يقتصر على أداء المهام الوظيفية فقط، بل كان يضفي على المكان جوًا من الألفة والمرح، بشخصيته المرحة ونكاته اللطيفة، فيكسب ود الجميع دون استثناء.
رغم انشغاله في عمله، كان من أوائل الرواد في العمل التطوعي، فحمل على عاتقه مسؤوليات اجتماعية متعددة، من أبرزها تنظيم مهرجان الزواج الجماعي في أم الحمام، حيث عمل جاهدًا على توزيع الأدوار والمسؤوليات بين أبناء القرية، مؤمنًا بأن خدمة المجتمع مسؤولية جماعية. لم يكن حضوره في المحافل الاجتماعية عاديًا، بل كان حضورًا مميزًا، بكلماته الطيبة التي تخاطب القلوب ومواعظه التي تلامس النفوس. كان قائدًا بالفطرة، يُلهم من حوله، ويوزع المهام بحكمة ودراية، ليشارك الجميع في خدمة قريتهم ومجتمعهم.
بيت عامر بالعلم والثقافة والشعر
في بيته، لم يكن“أبو الحسنين”مجرد رب أسرة، بل كان معلمًا وموجهًا، وبيتًا للعلم والثقافة. افتتح مكتبة في منزله، فتح أبوابها لمحبي المعرفة ولكل من أراد أن ينهل من بحار الكتب. كان بيته دائمًا عامرًا بالمؤمنين في المناسبات الدينية، وملتقى للأحبة من مختلف الأطياف في المناسبات الاجتماعية.
إلى جانب ذلك، كان له حضور شعري مميز، حيث امتلك موهبة نظم الشعر وإلقائه في المناسبات الدينية والاجتماعية. بصوته الذي يحمل خشوعًا وهيبة، كان يرتجل أبياتًا من قلبه المفعم بالحب والوفاء، فيشد الأسماع ويؤثر في القلوب. كان شعره تعبيرًا عن وجدانه الصادق، ولم يكن مجرد كلمات موزونة، بل كان رسالة تحمل قيمه ومبادئه التي عاش بها.
هذا العطاء لم يكن غريبًا عليه، فهو امتداد لإرث والده المرحوم الملا راضي الطلالوة، الخطيب المعروف الذي نهل منه“أبو الحسنين”الكثير من القيم والعلوم. وبعد تقاعده، لم يركن إلى الراحة، بل انخرط في الدراسة الحوزوية ليصبح خطيبًا مثقفًا، يجمع بين العلم والعمل، بين الخطابة والحياة الاجتماعية، دون أن يتغير أو يتخلى عن طبيعته المحبة للجميع، جامعًا بين الوقار وروح الفكاهة التي تطل عند الحاجة.
ورغم مكانته العلمية، بقي“أبو الحسنين”قريبًا من قلوب الناس، يتواصل مع الجميع دون تمييز، يؤمن بأن العالم الحقيقي هو الذي يظل متواضعًا ومحبًا للناس، مهما بلغ من العلم.
نهاية مؤلمة وحكاية تبقى خالدة
قبل يوم من وفاته، 4 يناير 2025م، كان مع حملة عائلة العوامي في مكة المكرمة، يشاركهم الأحاديث والضحكات، كما اعتاد دائمًا أن يفعل، بشوشًا مرحًا، يلقي أبياتًا شعرية من نظمه ارتجالًا، وكأنه كان يودعهم بكلماته دون أن يدري. لم نكن نعلم أن تلك اللحظات ستكون الأخيرة التي نراه فيها.
وفي صباح اليوم التالي، جاءنا الخبر المفجع: رحل“أبو الحسنين”بهدوء كما عاش، رحل تاركًا وراءه ألمًا وذهولًا في قلوب أحبته وأصدقائه. لم يصدق الجميع الخبر في البداية، وأنا واحد منهم، كانت صدمة عميقة عصفت بنا جميعًا. ثم ما إن شاهدنا مقاطع الفيديو التي وثّقت مراسم التشييع، واستقبال جثمانه الطاهر، حتى انهمرت الدموع بلا توقف. كان مشهدًا مهيبًا ومؤلمًا، حين رأينا نعشه يُحمل إلى مثواه الأخير وسط دموع المحبين وحسرة الأهل والأصدقاء.
ذكراه باقية في القلوب
رحل الحاج الملا علي راضي الطلالوة بجسده، لكنه بقي حاضرًا في قلوبنا وذاكرتنا، باقٍ في كل زاوية من زوايا قريتنا، وفي كل محفل من محافلنا، وفي كل ذكرى طيبة تركها خلفه. كان مثالًا للإنسان الذي يعطي بلا حدود، يعمل في صمت، ويزرع الحب في قلوب من حوله.
لقد ترك لنا إرثًا غنيًا من القيم والأخلاق، إرثًا نستلهم منه الدروس والعبر. كان نموذجًا فريدًا للإنسان الذي يخدم مجتمعه بصدق وتفانٍ، لا ينتظر شكرًا ولا يطلب مقابلًا. كان شعاره في الحياة أن العطاء هو أسمى صور العبادة، وأن من يخدم الناس يظل حيًا في قلوبهم وإن رحل.
رحمك الله يا أبا الحسنين، وأسكنك فسيح جناته، وجزاك عنّا وعن كل من عرفك وأحبك خير الجزاء. لقد كنت لنا أخًا وصديقًا ومعلمًا، وما أحوجنا اليوم إلى أمثالك في زمن قل فيه أمثال الرجال المخلصين أمثالك.
سنظل نذكرك بقلوب حزينة وأرواح ممتنة، وندعو الله أن يجمعنا بك في مستقر رحمته، مع محمد وآل محمد، إنه سميع مجيب.