النقد والجدال بالتي هي أسوأ .. ليس من أخلاقنا ..!!

الأستاذ / ذاكر آل حبيل

يدور النقد والجدال في ساحتنا الاجتماعية هذه الأيام حول الكثير من الأحداث المؤسفة، والمواقف المتباينة منها، والكتابات التي كتبت حولها، سلباً وإيجاباً، والتي يبدو فيها كمية كبيرة من التوتر والتشنج من اغلب الأطراف، الأمر الذي أدى لمزيد من الشحن النفسي عند غالبية المتفاعلين، وبروز مكنون التصور النمطي باتجاه الغير عند الغالبية، جمهوراً ونخب، حتى لا يكاد المرء يعثر على الصوت العقلاني من بين ما يطرح ويقال إلا لماماً، ففي وسط ارتفاع سهام الاتهام المتبادل، والتشكيك في النوايا، واستخدام سياط النقد الجارح، والجدال بما هو أسوأ، وشخصنة الموقف من الغير، أنى للموضوعية أن تحضر، وللعقل أن ينبجس وعيه، لا والله أن هي إلا " شنشنات أعرفها من أخزم".


أن كمية العنف اللغوي المستخدم في الجدال والنقد حول القضايا المطروحة، وتوظيف كامل الجهد النفسي والعقلي والديني وكل ما أوتي للبعض من قدرة وقوة، نحو التقصي والرصد والمتابعة للغير في مجمل سكناته وحركاته، وحتى هواءه الذي يتنفس، يدل على نزوع عدواني كامن تجاه بعضنا البعض، وأن مجمل ذلك ليكفي للحكم على أخلاقنا وقيمنا التي ربما احتاجت إلى مراجعة، وإلى مشاعرنا وسجايانا التي قد تكون بحاجة إلى تزكية وتشذيب من عوالق الأزمنة، وتأثيرات الضغط التاريخي التي تمر به المجتمعات المضطهدة والمعتدى عليها بعوالق التمييز والإقصاء، والذي لا زال جاثماً على النفوس، فبدل أن يوحدها تجاه قضاياها، فرقها شيعاً كل " حزبٍ بما لديهم فرحون" .


ليس من المعيب أن يكون بيننا جدلٌ ونقدٌ في كل ما نقوم به من خدمة بعضنا البعض، وفي مختلف المجالات الإنسانية، وسواء كان ذلك بلحاظ العمل الديني، أو الخيري الإنساني، أو الثقافي العام، أو حتى السياسي الأعم، وكل ما له من علاقة ببدل الخدمة للمجموع، التي تحتاج منا جميعاً الانخراط لسد النقص والتكامل من خلال المواهب المتعددة التي يتحلى بها من هو مؤهل لتلك الخدمة، ليبذل كل منا ما يستطيع لصالح المجتمع الذي وجدنا فيه، ومن خلال حبنا ووفائنا له.


وليس من المعيب ان يخطأ من يعمل بجدارة وبإخلاص مشهود، في مديد تاريخه الشخصي، فكما لكل جوادٍ كبوة، لكل مجتهد نصيب، وما دام الإنسان يتحرك إلى الأمام كادحاً مدفعاً نحو تحقيق الهدف، فقد يتعثر بالعراقيل أو يتوقف بقراره أو بالرغم عنه، أوقد يصاب بلحاظ إنسانيته بالسهو أو اليأس أو الغرور أو ما شابه من ملابسة الوضع الإنساني؟!
أنما المعيب في أن نكون مساهمين في وضع العراقيل في طريق بعضنا البعض، ولا نحسن التصرف في حال أخطأ فينا القوي والكريم والمحسن، أو ليس جاء في تشريعنا الإسلامي حكم عدم جواز " تعير المؤمن بذنب" فما بالك بخطأ إنساني طبيعي في حدوثه، أو ليس من المعيب الأخلاقي أن نجرد الآخرين من حقوقهم الاعتبارية ونرسم معالم التشويهات الموجهة وبقصدية بالغة التطرف في القول والعمل على أشاعتها ..؟!؛ فبدل أن نعين ذوي العثرات على تجاوز عثراتهم، ننهال عليم باللوم والشجب والاستنكار، أن لم يكن الرجم بكل تهافت الإستنقاص والشتائم والسباب.!!


أو ليس من المعيب أن نتخلى عن عقلانيتنا ورصانتنا وأخلاقنا الإنسانية الطبيعية، والدينية المقدسة، وينفلت زمام الحكم عندنا حد الإهانة لأعزائنا وكرامنا ممن خدمونا وقدموا جل وقتهم وعمرهم في سبيل القضايا التي يخدمونها، والذين ربما لم يحالفهم الاجتهاد ذات مرة في موقف أو عمل ما؟! أو لا يستحق منا المحسن الذي أخطأ للتو، أن نقول له أحسنت في كل ما فعلت، ولكنك أخطأت هنا وعليك المراجعة؟!


كما انه من المعيب حقا، أن لا يعترف من يعمل في حقله الذي يخدم فيه، وبإخلاص مقدر من الجميع، بأنه قد لا يتعثر أو لا يتعب أو لا يسهو ويغفل عن الصواب، ويخونه التعبير أو الموقف عن جادة أمرٍ ما يرمي إليه من خلال طبيعته البشرية القابلة للصحة والخطأ ويتصور أنه في قداسة ومناعة لا يمكن مسها بالنقد والتوجيه، فلا أحد فوق النقد، وإنما نحن بشر مثل بعضنا البعض في الكرامة الآدمية التي يجب أن تحترم وتقدر شرعاً وقانونا، كما يجب أن تحترم النخبة جمهور الناس وتقدم اعتذارها بكل قوة مشرفة للجميع عندما تجرح مشاعر الناس في قضية من قضاياها.


أو ليس من الخلل الإنساني الفردي والجمعي أن نتولى بعضنا بعضاً بمزيد من التهكم والسخرية، وإجزال التشنيع والتوبيخ، في حالة عدم رضانا عن شخص أو جماعة، وربما كان ذلك بلحاظ القولبة النمطية الجاهزة، والتي ربما كانت مأخوذة على شخص أو جماعة معينة بمأخذ ما، ولا يطال تلك النظرة النمطية أي تغير أوتبدل مهما طال الزمن وحاول ذلك الشخص وتلك الجماعة بذل المزيد من الجهد والمقاربة الموضوعية في أرائها ومواقفها، ويبقى إصرارنا على ضرورة أن  يعاقب ذلك الشخص أو تلك الجماعة، حتى الموت والفناء؟!


فلمصلحة من يتآكل مجتمعنا من خلال نقد فارض من أخلاقيته، " وجدال بالتي هي أسوأ " وبمقلوب الآية الكريمة ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ولمصلحة من أن لا يقدر الناس من يخدمهم ويرحموا عثراته إذا ما تعثر، ويتوجهوا إليه بملمح النقد الحاني والسمح، وبغير التشهير والشخصنة، فالشخص لا يمثله خطأه الآني، وإنما يمثله تاريخ شخصه الثري بالعطاء والمكابدة، وحتى لا يكابر ويصر " فالإنسان لا يقف أما النقد الجارح عارياً" وإنما قد تتمثله ردات فعل غير صائبة أو محمودة فتؤدي إلى زيادة المشكلة وتعقيد حلها.

من هنا يجب علينا جميعاً استدراك أمرنا الإنساني الأخلاقي على مستوى القيمة النقدية التي نقدم من خلالها رؤيتنا إزاء أراء ومواقف الآخرين، وأن لا نبتعد عن القيمة الاعتبارية للأشخاص على مستوى كرامتهم الآدمية والاجتماعية، وأن نرحم أعزاء قومنا إذا ما تعثروا، أو خانتهم البوصلة، وفي المقابل ليترفع العزيز من النخبة ممن هم  بيننا عن ألفاظ الحط من القيمة الاعتبارية للناس الذين يخدمونهم، وأن يأخذوا باعتراضهم على أرائهم  ومواقفهم التي ربما احتاجت إلى بعض المراجعة أو المعالجة أو حتى التوقف.