مثقف لا يقرأ
يدعي - وبصوتٍ مدوٍ - بأنه مثقف، بل ويتشدقُ بالثقافةِ دونَ احتراز، ويحاولُ أن ينعتَ نفسه بسماتِ المثقفين، ويصنفها في منزلتهم، وعندما تقدّم له مادة صالحة للقراءة في عالم الإنسان - ظنًا منك بأنه ذلك المثقف النحرير الذي يقطرُ علمًا - تراه يتهربُ منك ويفرُّ فرارًا وكأنك جرعته سُمًّا نقيعًا، أو وضعت على رأسه حِملًا ثقيلًا من الكلماتِ والألفاظِ التي ليس لها وزن مادي، ولكنها في حساباتِه الخفية أثقل من الثقوبِ السوداءِ التي تعتبرُ من أثقلِ الأشياءِ في هذا الكون.
بنظرة سريعة ومسح أولي غير دقيق لكمية الرسائل المهولة التي نستقبلها كل ثانية في برامج التواصل الاجتماعي، سنجد أنها تحوي معلومات كثيرة وثرّة يمكن من خلالها للإنسان القارئ الذي يمتلك وعيا وفهمًا قرائيًّا أن يستفيد منها أيما فائدة؛ لتعود عليه بالنفع العظيم، واكتساب ثقافة جيدة تؤهله كمبتدئ لأن ينطلق في الحياة بخطى ثابتة، وتتشكل لديه بداية الانطلاقة في توظيف مهارة القراءة الواعية في اختيار الكتب الثقيلة مضمونًا وعلمًا لا وزنًا، فيتعلم ويُعلّم.
عندما نكون في مجلس يتجاذب فيه الحاضرون أطراف الحديث، وكلٌّ يعرض رأيه ويدلو بدلوه في جو مفعم بالحقائق العلمية والمعلومات الموثقة، يخرج لك ذلك النشاز الفكري، وما إن يبدأ حديثه حتى تكتشف أنه من تلك الفئة، حيث الحقائق مغيبة والمعلومات مغلوطة، والرزيئة كل الرزيئة حينما يحاول باستماتة أن يتصدر المجلس، مع سكوت ملؤه الأدب وحسن الخُلق من الحاضرين الذين غالبًا ما ينسحبون شيئا فشيئا، فلا يبقى في ذلك المكان إلا أمثال ذلك الكائن والمسكين صاحب المجلس الذي يضطر إلى مجاملته وملاطفته، مع توزيع بعض الابتسامات الباردة والمحبطة من قبله لذلك الشيء، حتى يحين موعد مغادرته، فتكون الابتسامة المشرقة السعيدة هي عنوان وجه صاحب المجلس.
اكتساب الثقافة من الاستماع فقط لآراء الآخرين دون اطلاع وقراءة وبحث لا تمكنك أيها المثقف من أن تكون لك الأولوية في الكلام، بل تكون حدودك فقط في الاستماع ولا شيء غيره، وعليك أن تبقي فمك في وضعية الإغلاق، وإن أردت أن تتحدث فلا بد أن يكون حديثك في حدود السؤال والاستفسار؛ لمحاولة الفهم ليس إلا، ومع تطوير ذاتك وصقلها ونضجها يكون لك دور صغير، ثم ما يلبث أن يكبر وينمو تبعًا لتقدمك واشتغالك على نفسك بالعلم والبحث والثقافة الحقيقية.
يقول أحدهم:
”الفشل الثقافي ليس العجز عن الكلام، ولكنه الكلام من غير حكمة“.