عبدالله «3»
لقد وصلنا المقهى...
قال عبدالله: لكنه مزدحم... وأنا لا أحب الازدحام...
قلت: سنأخذ طلبنا سفري... ماذا تحب أن تشرب؟
قال عبدالله:...........
ابتسمت وقلت: طبعاً بدون سكر.
قال: بالتأكيد... فمنذ أن عرفت بإصابتي بالسكري وأنا مقاطع السكريات بكل أشكالها...
قلت: توقفنا في الحلقة الماضية عند معرفتك بالإصابة بالسكري في مستوصف مضر بالقديح، دعنا نكمل الحديث ونتعرف على التفاصيل...
قال عبدالله: دعنا نأخذ استراحة لنشرب قهوتنا وبعدها نكمل الحديث...
بعد تناول القهوة قال عبدالله: بقي لدينا نصف ساعة...
قلت: ولكننا اتفقنا أن يكون الوقت مفتوحاً حتى نكمل الحديث...
قال: لا تقلق سنتحدث بما يتسع الوقت... وسيكون حديثاً مشوقاً...
قلت: هيا ابدأ...
قال عبدالله: أخبرنا الطبيب بإصابتي بالسكري... وكانت صدمة لنا «أنا وأخي الأكبر وعمي أحمد» لم نستوعب حديثه... صرت أنظر للطبيب ولم أفهم ما يقول...
قال الطبيب: سأكتب لكم تقرير طبي وستذهب ب «عبدالله» لمستشفى القطيف المركزي حالا...
قال عمي: ماذا لو ذهبنا غداً... الوقت الآن متأخر...
قال الطبيب: لا تتأخروا... نتيجة السكر مرتفعة جداً mg/dl900...
صعقنا من هذا الرقم...
لذلك قال عمي: سنذهب الآن...
انطلقنا بالسيارة نحو مستشفى القطيف المركزي، الوقت منتصف الليل... حركة الناس في الشارع كانت متوسطة فنحن في ليالي شهر رمضان... وصلنا طوارئ مستشفى القطيف... تقدم عمي بالتقرير وأعطاه للاستقبال، دخلنا على الطبيب، وبمجرد أن قرأ التقرير... نظر إلينا.. وقال: منذ متى وعبدالله مريض بالسكري...
قال عمي: من هذه الليلة...
قال الطبيب: هذا يحتاج تنويم حالا...
بدأ الطبيب بالاتصال بقسم التنويم...
لحظات حتى جاء الرد...
قال الطبيب سيتم تنويم عبدالله في وحدة العناية المركزة..
قال عمي: هل يحتاج مرافق، فكما تعلم هذا طفل صغير...
قال أخي: سأكون معه هذه الليلة..
قال الطبيب: في وحدة العناية لا نحتاج مرافق... ربما بعد أن يخرج من العناية سيحتاج مرافق...
كنت أنظر لهذا الحوار السريع...
إصابتي بالسكري... mg/dl900.. المستشفى... العناية... بدون مرافق...
لحظات حتى وجدت نفسي على السرير يُتجه بي نحو العناية المركزة... رافقني عمي وأخي حتى بوابة المصعد وبعدها دخلت العناية المركزة...
فيما عاد عمي وأخي إلى البيت... استقبلتهم أمي مندهشة صارخة أين عبدالله... أين ولدي... ماذا حدث له... أين كنتم طوال هذا الوقت؟ «في تلك السنة كما تعلم لم تكن هناك اتصالات سريعة، ولم تكن هناك جوالات»...
قال عمي: عبدالله في مستشفى القطيف المركزي...
صرخت أمي: ولماذا مستشفى القطيف المركزي... أنتم ذهبتم لمستوصف مضر... ماذا حدث أخبروني...
قال أخي: عندما ذهبنا للمستوصف أخبرنا الطبيب بأن عبدالله...
صرخت أمي: ما به... هيا تحدث
قال أخي: دعيني أكمل... قال الطبيب عبدالله مصاب بالسكري.
قال أمي: ماذا؟!! سكري...
ضربت على رأسها... يا ولدي «من وين جاك السكري»
خرج أبي من غرفته وقال: ماذا حدث...
قالت أمي عبدالله عنده سكري...
ظل أبي ينظر إلى عمي وأخي ثم قال: عبدالله عنده سكري... كيف؟!
قال عمي: هذا ما حدث... وهو الآن في مستشفى القطيف المركزي... في العناية...
إزداد صراخ أمي عند سماعها كلمة العناية... ولماذا العناية... أكيد ولدي فيه شيء ثاني وأنتم تخفون عني الحقيقة... قولوا ماذا بعبدالله؟!
قال أخي: صدقيني يا أمي عبدالله عنده سكري فقط... وبسبب الارتفاع سيبقى هذه الليلة في العناية حتى ينخفض إلى المستوى المقبول.. وغداً سنذهب لزيارته... لا تقلقي... سيكون بخير...
بدأت أمي بالبكاء.. آه عليك يا ولدي...
هدأها أبي وقال: لا عليك سيكون بخير...
قدموا لها كوبا من الماء...
اشربي... واذكري الله...
كان أخواني وجميع أفراد العائلة حاضرون في هذا المشهد... لم يصدق الجميع الخبر...
ساد الصمت والحزن في تلك الساعة... حتى اقترب أذان الفجر...
قال أبي: لم يبقى سوى ربع ساعة على أذان الفجر.. اشربوا ماء... سيكون عبدالله بخير...
نظرت أمي لأخي الأكبر وعيناها مغرورقة بالدموع وقالت: هل هذا صحيح... عبدالله مصاب بالسكري؟
قال أخي: نعم...
ثم قالت أمي: هل سيخرج غداً... هل سيشفى...
قال أخي: إن شاء الله يكون بخير...
ساد الصمت...
حتى أذن الفجر...
................................
قلت: يا له من خبر صادم... أنا لا ألوم عائلتك... لم يكن أحد يتوقع إصابتك بالسكري...
قال عبدالله: أنا لم أستوعب الحدث... دخلت العناية المركزة وكانت الأجواء مخيفة.... أجهزة طبية... عدة ممرضات في حركة مستمرة... مرضى منومين دون حراك... وصلت للسرير... استلقيت عليه... وأنا أنظر حولي... ماذا أرى... لماذا أنا هنا... ما هذا المرض الذي أعاني منه حتى يتطلب أن أبقى في هذا المكان... جاءت ممرضة فلبينية وقالت: هيا البس هذه الملابس...
نظرت إليها..
قالت: ألبس...
لبست الملابس...
وبدأ مشوار الفحوصات المتكررة... والنوم المتقطع...
في اليوم الثاني جاء الطبيب ونظر إلى ملفي... قرأ نتائج التحاليل...
قال: لا يزال السكر مرتفعاً ولكنه أفضل من البارحة...
بدأ يسألني: هل لديكم أحد أفراد العائلة مصاب بالسكري، أبوك، أمك...
قلت: لا أعلم... أعتقد أنهما غير مصابين...
ثم قال: هل سبق وأن تنومت في المستشفى قبل هذه المرة؟
بدأت أفكر...
قال الطبيب: هل تنومت؟
قلت: نعم تنومت
قال الطبيب بتعجب متى تنومت ولماذا؟
قلت: تنومت بسبب حروق...
قال الطبيب: حروق ماذا... أين الحروق؟
قلت: عندما كنت في الصف الثاني ابتدائي... انسكب عليي ماء مغلي... من كتفي حتى بطني... في الجهة اليسرى... وتنومت في وحدة الحروق عدة أيام...
كشف عليّ الطبيب وقال: الحمد لله على السلامة...
ثم قال: ستبقى معنا في العناية حتى ينخفض عندك السكر... لا تخف ستكون بخير...
بقيت تلك الساعات في العناية المركزة والممرضات في حركة مستمرة مع المرضى... كنت أراقب الوضع وأرى بعض المرضى مغمى عليه... وأسمع أصوات الأجهزة الطبية المرعبة... لا أخفي عليك أني كنت خائف من ذلك الوضع...
جاء وقت الزيارة...
قالت الممرضة: هل سيحضر أقاربك لزيارتك؟
قلت: لا أعلم...
لم أكمل كلامي حتى سمعت صوت أمي... ولدي عبدالله... «ويش فيك» «ليش أنت اهنيه» «ويش يعورك» وبدأت تبكي...
لم أستطع الكلام...
لحظات وأمي تبكي...
حتى قالت لها زوجة عمي... عبدالله بخير... الحمد لله على سلامته...
قالت أمي: ولكنه صغير... «من وين جاه السكري»؟؟!
بقيت زوجة عمي تهدأ أمي حتى هدأت وقالت: هل أكلت... هل تحب نحضر لك أكل؟
قلت بصوت مبحوح أنا بخير يا أمي وسأخرج من هنا قريباً... لا تبكي... ستكون أموري أفضل...
وهكذا بقيت في العناية المركزة ثلاثة أيام
حتى جاء الطبيب وقال: اليوم ستخرج...
قلت الحمد لله... لكني لم أتصل لأهلي حتى يحضروا وأذهب معهم..
قال الطبيب: ستخرج إلى قسم التنويم الخاص بالأطفال ونحتاج إلى مرافقة معاك، لأن قسم الرجال لا يوجد به سرير شاغر..
نظرت إليه.. ولماذا قسم التنويم... ألم ينضبط مستوى السكري عندي؟!
قال الطبيب: الحمد لله أمورك في تحسن ولكن تحتاج أن تبقى معنا بضعة أيام حتى نطمئن عليك وحتى تتعلم كيف تتعامل مع السكري، كيف تأخذ علاجك، كيف تتناول طعامك وغيرها...
تم نقلي لقسم الأطفال وتنومت معي أختي، وفي وقت الزيارة تفاجأة بحضور مجموعة من الزوار... حضر صديقي الأخ العزيز «شاكر» مع مجموعة من الشباب... وحضر مجموعة من رجال «الديرة» ديوانية «المحيشي»... كانت مفاجأة لم أتوقعها أن يحضر لزيارتي هذا العدد من الناس...
خلال أيام التنويم كانت الممرضات تدرب أختي حول كيفية حقن الأنسولين، والتعامل مع العلاج وأخذ الجرعة بكل دقة...
الذي أحزنني في فترة إقامتي بالمستشفى هو أني لم أحضر لصلاة ليلة القدر التي تعودت أن أصليها من أخوتي وأصدقائي في مسجد الشيخ علي المرهون الذي كان يمتلئ بالمصلين، وبسبب الإزدحام كانوا يفرشون الطرقات المحيطة بالمسجد، وكان الشيخ علي يقوم بأعمال ليلة القدر من قراءة القرآن والأدعية والصلاة بكل خشوع... كانت الأجواء جميلة... ولكن في هذا العام لم أوفق للحضور... ولكني على يقين أن هناك مجموعة من الأصدقاء كانوا يدعون لي بالشفاء...
حتى جاء يوم 29 رمضان وأخبرنا الطبيب بإمكانية خروجي من المستشفى، ومتابعة علاجي في مستشفى القطيف العام «الشويكة»..
خرجت وكانت أمي في استقبالي...
أجواء مليئة بمشاعر الحب والحنان... احتضنتني... قبلتني... قائلة: كل شيء سيكون جاهز لك... هل أنت جائع... هل تحب أن تأكل شيئاً...
قالت لها أختي: من اليوم عبدالله سيكون له غذاء خاص...
قالت أمي: سأطبخ له كل ما يناسب صحته... هذا ولدي الغالي...
مسحت دموعها...
جاء أخي أبو جعفر وقال: الحمد لله على السلامة... هيا لنذهب لبيع الحليب...
ضحكنا... وقالت أمي... عبدالله عنده إجازة...
للقصة بقية