ورقة الخريف؟
عادة نشاهدها في فصل الخريف وبصورة متكررة تتمثل في تساقط أوراق الشجر، ولا يخفى علينا أن الأشجار تلجأ لذلك كشكل من أشكال التكيف والحماية الذاتية من مخاطر الشتاء وبعض التغيرات البيئية. هذه العادة تُشَكَّلُ المشهد الأبرز في ذاكرة الناس لهذا الفصل، وهي ظاهرة اعتيادية فيه تميزه عن بقية فصول السنة، وقد ألفناها كما هو حال ذلك الفصل.
مشهد سقوط تلك الورقة متأرجحةً لا يؤثر فينا كتأثيره في الشجرة التي ارتبطت بتلك الورقة بعلاقة متينة توطدت منذ أن ولدت على أملوجها، وإني لأظن بأن موت الورقة فيه الكثير من الحزن والألم والشجى الذي يخيم على الشجرة، في قبالة ذلك فإننا - نحن البشر - لا نشعر بالمشهد مطلقًا، حيث إن هذه الحالة لا تنتمي إلينا في مشاعرنا، ولا تعنينا في تأثيرها على أفئدتنا.
لكن هنالك عامل مشترك بيننا وبين تلك الحالة التي تعيشها الشجرة، حيث يكون التشابه في أعلى حالاته، ويتمثل في المواقف التي نتعرض إليها في حياتنا، حيث تُسقط فينا أوراقًا غير متحققة في الخارج، فهي ليست محسوسة، ولها طبيعة مختلفة وحياة معقدة، تلك الأوراق المتساقطة التي أعنيها هي علاقاتنا مع الآخرين، فكلما سقطت علاقة سقطت ورقة من أشجارنا الداخلية.
سقوط من الداخل بل من أعماق الداخل، سقوط من الجذور، هو سقوط لورقة المكانة والمنزلة، سقوط من شجرة المشاعر، سقوط مؤلم بحق، سقوط غير مرئي بالعين، سقوط يبصره القلب بكل تفاصيله، ويا له من سقوط!
في هذا الصدد لا بد لنا من أن نشير إلى نقطة في غاية الأهمية؛ كي لا نلقي باللائمة على مشاعرنا ونحمِّلها ما لا تحتمل، تلك النقطة مفادها أن تغير العلاقات وتبدلها مع مرور الزمن طلوعاً إلى القمة أو نزولاً إلى الحضيض أمر لا مفر منه وطبيعي في حياة البشر؛ نظرًا لتبدل طبائعنا وآرائنا وقناعاتنا وأفكارنا وأماكننا، وقد تنتهي تلك العلاقات ليحل محلها علاقات جديدة، نحن هنا لا نعني تلك العلاقات بل نعني نوعية أخرى تسقط وتموت لا لعلة التبدل وإنما لعلة الزيف الذي كان يغطيها فيخفي حقيقتها، ويحجب واقعها الصحيح والدقيق، فتكون الصدمة بدايتها والسقوط المدوي نهايتها.
لا أدري لِمَ لا يرحلون عنا دون أن يتركوا بصمة الزيف وراءهم؟!
ما اللذة التي يشعرون بها حينما يدمرون قلوبا أحبتهم بصدق؟!
لِمَ لا يصرحون منذ البداية بزيفهم، حتى لا تكون الجراح غائرة ويكون من الصعب برؤها، فتبقى تنزف وتنزف ولربما لآخر محطة في العمر؟!!
ورقة الخريف في رحلتها بدءًا من الفنن وانتهاءً إلى التراب لم تؤذِ أحدًا، وإنما قدمت نفسها قربانًا؛ حتى تبقى الشجرة صامدة، تدب فيها الحياة من جديد.