حرمة المساكن

إن للناس حرياتهم وحرماتهم وكراماتهم التي لا يجوز أن تنتهك بأي صورة من الصور، ولا أن تمس بأي من الأحوال، ففي المجتمع الذي يسوده القانون، يعيش الناس آمنين على بيوتهم، وآمنين على أسرارهم، ولا يوجد مبرر، مهما يكن، لانتهاك حرمات الأنفس والبيوت والأسرار، حتى ولو كان يتم بحجة تتبع ومعرفة مرتكب الجريمة، فإن ذلك لا يحدث إلا في الحالات القصوى، ويتم في الإطار القانوني الذي يجوز للدولة، بعد الاذن من صاحب الحق الاطلاع، لأن الناس على ظواهرهم، وليس لأحد أن يتعقب بواطنهم، ولا أن يأخذهم إلا بما يظهر منهم من مخالفات وجرائم، ولا أن يظن أو يتوقع أنهم يزاولون في الخفاء مخالفة ما، فيتجسس عليهم ليضبطهم، وكل ما عليه أن يأخذهم بالجريمة عند وقوعها وانكشافها.

وللمسكن حرمة لا يجوز المساس بها، فلا يفاجأ الناس في بيوتهم بدخول الغرباء عليهم إلا بعد استئذانهم وسماحهم بالدخول، خيفة أن تطلع الاعين على خفايا البيوت، ذلك أن استباحة حرمة البيوت من الداخلين دون استئذان، يهيئ الفرص لانتهاك الحقوق الشخصية، مما ينشأ عن ذلك الفوضى الاجتماعية والعقد النفسية، ويصبح المجتمع مجتمع فوضى، والبيوت لا تكون كذلك إلا حين تكون حرمة آمنة لا يستبيحه أحد إلا بعلم أهله، وإذنهم، وفي الوقت الذي يريدون، وعلى الحالة التي يحبون أن يلقوا عليها الناس.

ولم تترك المسألة بشكل عفوي، دون وضع ضوابط وحدود، فقد عرف في المجتمعات، طريقة الاستئذان التي هي تعبير يوحي بالتزام المواطن بالآداب العامة المتعارف عليها بين المجتمعات، والتي هي إجراء وقائي للحد من التجاوزات.

وفي هذا الإطار روي عن الرسول في خطبة الوداع، التي تعتبر اول وثيقة لحقوق الإنسان في التاريخ، حيث قال: «يا أيها الناس، أتدرون في أي شهر أنتم؟ وفي أي يوم أنتم؟ وفي أي بلد أنتم؟». قالوا: «في يوم حرام، وشهر حرام، وبلد حرام»، قال: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا».

فهذا التوجيه العام الذي يقرر ويحمي الحريات الفردية في كل اتجاه، يضع في الوقت نفسه الحدود اللازمة لهذه الحريات في حديث مشهور إذ يقول الرسول : «مثل القائم في حدود الله، والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا».

وفي العصر الحديث اهتمت الاتفاقيات والمواثيق الحقوقية بحق الإنسان في أن تحترم حياته الخاصة والمتعلقة بشؤون الأسرة والمسكن والسمعة؛ فقد نصت المادة الثامنة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان على أن:

«أ - لكل إنسان حق احترام حياته الخاصة والعائلية ومسكنه ومراسلاته». «ب - لا يجوز للسلطة العامة أن تتعرض لممارسة هذا الحق إلا وفقا للقانون، وبما تمليه الضرورة في مجتمع ديمقراطي لصالح الامن القومي وسلامة الجمهور أو الرخاء الاقتصادي للمجتمع، أو حفظ النظام ومنع الجريمة، أو حماية الصحة العامة والآداب، أو حماية حقوق الآخرين وحرياتهم».

وأما مشروع ميثاق حقوق الإنسان العربي، فقد نصّت المادة السادسة منه على أن: «للحياة الخاصة حرمة مقدسة، والمساس بها جريمة، وتشمل هذه الحياة الخاصة خصوصيات الاسرة وحرمة المسكن وسرية المراسلات وغيرها من سبل المخابرة الخاصة».