الهوية الذاكرة

لا يأتي سؤال الهوية إلا بعد تجاوز الماهية، فلا يصح أن تقول من أنت إلا بعد وجود فكرة عما أنت أولاً؟ فسؤال الهوية يضمر داخله الإجابة عن الماهية ويتجاوزها، بمعنى آخر سؤال الهوية لا يكون إلا داخل نطاق المجتمع الإنساني.

الهوية هي انتماء لقاسم مشترك جامع له القدرة على إعطاء المنتمين له دافع محشد كوحدة هدف أو مصير مشترك، وتتداخل دوائر هذه المشتركات المدركة فيما بينها من الجنس إلى العرق والدين والحضارة والثقافة واللغة والمنطقة الجغرافية والطبقة الاجتماعية وغيرها، كل هذه الاعتبارات والانتماءات المعقدة المكونة للهوية تفرض تموضعاً معيناً تنطلق منه الجماعة أو الفرد في حكمها على كل شيء.

أن تكون منتمٍ لهوية معينة يعني أن يكون لك تاريخ ألا تكون ابن لحظة ميلادك فقط بل تكون لك جذورٌ ممتدة في عمق الزمن ما يعطي لوجودك قوة وأثراً راسخاً ممتداً بامتداد هذه المدة فتكون ابن ارضك وتاريخك وصراعات أسلافك وثقافتك ما يعطي لهويتكَ قيمة أكبر وأثقل مما لو حصرت بفترة حياة إنسان من يوم مولده إلى يوم وفاته، كما يحمل المنتمي للهوية ثقل المسؤولية التاريخية الظرفية في هذه اللحظة.

تعقيد الهوية في كونها أعمق من تمييز الأشياء بمعرفة أضدادها وأخطر من مجرد وسم توصيفي باسم جامع يميز جماعةٍ عن غيرها، ويتجاوز كل ذلك إلى الامتداد التاريخي المكون للذاكرة الجمعية والحاضر المبني عليها بما يتضمنه من نتائج تؤثر على المنتمي لهذه الهوية، كما لا توجد هوية ليس لها مكان على خريطة الصراع الإنساني الأزلي، ما يجعل حياة الإنسان فترة قصيرة ضمن سياق صيرورة موروثة من الماضي وتمتد بحاضرها إلى المستقبل.

تبقى معايير تحديد الهوية متشابكة وغير ثابته، فقد يطغى الجانب العرقي على الديني أو الديني على القومي أو الجغرافي على اللغوي، أو الطبقي، أو التوجه الفكري، أو الجنسي، أو الحقوقي، مما يكثر وصفه ولا يحصر تصنيفه، فهي دوائرٌ مجتمعة متداخلة بين بعضها ولكن للظرف التاريخي دورٌ في استدعاء وبروز أحدها على البقية للاستفادة من زخمها في قضية معينة، أو كونها سمةً محَدِدَةً في ظرفٍ يطلب منها أن تكون كذلك ما يعني أن للآخرين وللظرف التاريخي دور في تقديم جانب من الهوية لجماعة ما على جانب آخر، فاستدعاء الهوية الطائفية في مجتمع ما مثلاً يؤثر بالضرورة على المجتمعات المجاورة ما يؤدي إلى حالة من الاستنفار لاستدعاء الهوية الطائفية بكل زخمها لمواجهة الطرف الآخر بالهوية المضادة وهكذا.

الانتماء لهوية معينة لا يعني تكرار الماضي ولا العيش فيه، بل استحضار هذا الزخم الحضاري بأثره المعنوي وتحمل المسؤولية كأحد أبناء سياقاته ما يعطي نقطة ارتكاز فكري ومنظومة أخلاقية ينطلق منها باتجاه العالم وما يدور فيه لفهمه وتقييمه، فنحن كبشر لا بد أن نبدأ من نقطة ما إذ لا يمكن أن نتعالى على الواقع لنبدأ من الفراغ، الهوية هي طبيعة تحديد وتأطير إنسانيه لتعريف الإنسان المجهول بإحالته إلى معلوم بالهوية الجامعة التي تبدي صورةً وفكرةً عمن ينسب إليها.

لا مشكلة بالانتماء كمعرف وكاشف عن الهوية والاعتزاز بها، لكن كل المشكلة في أن تتحول إلى معيار تقييم وتفاضل بين الناس تعطى الحقوق وتسلب على أساسها، وكثير ما حدث ولازال يحدث حتى اليوم في الحركات العنصرية والدينية المتطرفة القائمة على الحق المطلق أو العنصر الأسمى والنظر بدونية واحتقار إلى كل مغاير، وطالما قامت حروب وجرائم على هذه النظرة التي تحول الهوية من عنوان كاشف عن مُعَنون إلى حقيقةٍ مطلقةٍ بذاتها وما غيرها إلا الباطل.

واليوم في ظل العولمة وذوبان الهويات داخل بوتقة واحدة يراد لها أن تكون مُعرفةً ونقطة انطلاق لجميع الناس وكأنها متعالية ولدت من العدم دون سيقات خاصة أو كأن للتاريخ سياق واحد وللفكر منظومة واحدة، يصبح التمسك بالهوية أمراً أكثر إلحاحاً لأنها السمة المميزة لنا بين عموم الناس والبصمة الثقافية التي تختزل ذاكرةً تعرفنا بأنفسنا وتقول للآخرين من نحن.