نحن وسؤال الاختيار
ما الذي يجعل الإنسان يختار الأدنى على الأعلى؟ أليس هو مفطورا على حب الكمال؟ إذن ما الذي يدعوه للخروج عن فطرته تلك؟ هل المشكلة في تشخيص الأعلى؟ أم في الانسياق وراء الأدنى وعدم القدرة على مقاومة إغراءاته؟ أم بسبب الرغبة في الركون للخيارات السهلة التي لا تتطلب مزيد جهد وعناء؟ أم في عدم وضوح قائمة الأولويات لديه؟ أم لأسباب أخرى ناتجة عن صراع الخير والشر في الإنسان؟ أم بسبب الوقوع تحت تأثير العقل الجمعي؟ أم لغير ذلك؟
لماذا «يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ»؟ ولماذا «أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ»؟ ولماذا «تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ. وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ»؟ ولماذا «أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ»؟ ولماذا «وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ»؟
في بعض آية من كتابه العزيز يستنكر جلّ شأنه على بني إسرائيل موبخًا لهم على سلوكهم في اختيار الأدنى على الذي هو خير، قائلا: «أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ» مما يؤسس لقاعدة حياتية عظيمة، وهي أن على الإنسان في كافة شؤونه الحرص ما أمكنه على انتخاب الخيار الأفضل من أجل حياة تليق به وبكرامته. وهذه القاعدة أكدت عليها الآيات على كافة المستويات كما يظهر من خلال عرض بعض النماذج:
1 - ففي قوله تعالى: «قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ». يأمر الله نبيه أن يخاطب الكفار الذين قالوا عن التوراة والقرآن «سِحْرانِ تَظاهَرا» ليخبرهم، في مقام الاحتجاج، باستعداده التام لاتباع أي كتاب يأتون به من عند الله يكون أكثر هداية من هذين الكتابين، فمثله لا يليق به إلا اختيار الأعلى والأكمل.
2 - وفي قوله: «الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ» ثناء على أولي العقول الخالصة لاختيارهم الأحسن.
3 - كما نلحظ التركيز على مفردة «الأحسن» في مقام العمل والسلوك، كما في قوله: «ِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» «وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ».
4 - والتأكيد على صنع الله الأحسن تكوينا وتشريعا: «صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً» «فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ» «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ».
5 - وبيان أن الغاية من خلق السماوات والأرض ومن خلق الموت والحياة هي لتمييز الأحسن عملا: «وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً» «الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً».
إن قاعدة اختيار الأعلى ينبغي أن تكون حاضرة بقوة في كل مفاصل حياتنا، لنكون كما قال تعالى: «وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ»، وهو ما يمكن أن نستفيده أيضا من مثل دعاء مكارم الأخلاق الذي استهله الإمام علي بن الحسين طالبا من الله المرتبة العليا من كل ما يتطلع إليه: «وَبَلِّغْ بِإيْمَانِي أكْمَلَ الإِيْمَانِ، وَاجْعَلْ يَقِينِي أَفْضَلَ الْيَقِينِ، وَانْتَهِ بِنِيَّتِي إلَى أَحْسَنِ النِّيَّاتِ، وَبِعَمَلِي إلى أَحْسَنِ الأعْمَال».
فائدة لغوية: الباء مع الإبدال تدخل على المتروك لا على المأتيّ به «أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ» «وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ». وهذا على عكس ما هو شائع في كلامنا.