كيف نعيش لذة النص القرآني؟
كل كلمة في القرآن الكريم أو جملة منه، بل كل حرف مختار بعناية ربانية دقيقة الموازين، محكوم بالقانون الإلهي العام: «وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ». لذا فإن من يريد أن يعيش لذة النص القرآني، ينبغي عليه أن يستحضر هذه الحقيقة حين تفاعله مع الكتاب العزيز تلاوة أو تدبرا، وعليه أن يُكثر سؤال نفسه عن أسرار النظم في كل آية لعله يهتدي لبعض كنوزها.
مثلا قد تمر بقوله تعالى: «الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ» ثم بالآية الأخرى: «إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ» ثم لا تسأل نفسك عن سر الفرق بين «تَتَوَفَّاهُمُ» و«تَوَفَّاهُمُ». فلماذا تم اقتطاع تاء من الثانية؟
لقد ناقش هذا الحذف وأمثاله بغزارة الدكتور فاضل السامرائي في كتابه «بلاغة الكلمة في التعبير القرآني» وذهب إلى أن الاقتطاع من الكلمة دليل على الاقتطاع الزمني من الحدث، فالأول «تَتَوَفَّاهُمُ» أطول زمنا من الثاني، لأن المشمولين بالتوفي هناك أكثر. وربما يجد من يبحث شيئا آخر غير هذا.
وقد تمر بقوله تعالى: «مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ» ثم لا تتوقف عند «كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ» ولماذا لم يقل: اشتدت عليه الريح؟
والجواب بحسب الدكتور محمد محمد أبو موسى: أن «الباء» الجارة هنا أقوى من «على» الجارة، لأنه لو قال: «اشتدت عليه» لكان من المحتمل أن تكون الريح هبّت عليه، واشتدت عليه وهو قارّ في مكانه. ولكن «الباء» خيّلت أن الريح اصطحبته وذهبت به في مهابها البعيدة.
وقد تمر أيضا بقوله تعالى: «يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا. وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا». ثم لا تلحظ الفرق في التعبيرين بين «يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ» حيث بناء الفعل للمجهول، وبين «نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ» مُسنَدا إلى ذات الله تعالى. ففي الأول ما فيه من إعراض وإشارة إلى عذاب مُهين يأتي النفس من حيث لا تدري، وفي الثاني ما فيه من إكرام وعطاء من رب كريم لا تنفد خزائنه.
إن البناء للمجهول في القرآن الكريم لا يكون اعتباطا أبدا في أي مورد من موارده، ولذا نقرأ قول الجن الدال على أدبهم مع الله تعالى، وتحاشيهم نسبة الشر إليه عز وجل في قوله تعالى على لسانهم: «وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا». أما الرشَد الذي هو خير فقد نسبوه إليه، لأنه تعالى مصدر الخير كله، ولا يصدر منه إلا الخير: «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».
هذه بعض إضاءات بسيطة على بلاغة القرآن، الهدف منها الحث على النظر في كتاب الله وتدبر آياته بقراءتها قراءة بعد قراءة أملا في استخراج شيء من دقائقها وكنوزها الثمينة، حتى نجد في كل قراءة لذة جديدة.