في بيتنا بخيل !

 

حتى العصافير تسمعنا زقزقتها ، وحتى الأشجار تسمعنا حفيفها ، وحتى المياه تسمعنا خريرها ، وكل هذا مجاناً من الطبيعة ودون مقابل ، ماعدا البخيل من بني الإنسان ، فإنه ينتظر بشغف دعوتنا له بـ ( تفضل ) ، أو ( لاتدفع ) .. آآه .. ساعد الله قلب كل من يدق أسفين مقالي على وتره .. فكم من الزوجات يشكين بخل أزواجهن ، وكم من الأبناء والبنات يشكون بخل آبائهم ، والله إنها مصيبة ليست كمثلها من مصيبة ، إنه مرض البخل وما أدراك ما البخل ، إنه مرض عضال ،  ولا دواء له سوى بفناء صاحبه !

فالبخل والحسد ندان لبعضهما ، وكل منهما يحاول إثبات قدرته وقوته في  إنزال بني آدم أسفل سافلين .. والإرث العربي غني بالبخلاء وقصصهم ، ولايغرنك عصر الأي باد واللاب توب ، فالبيوت تعـج بالبخلاء الذين تـتعوذ من أنفاسهم ملائكة السماء .

كثير من القضايا الإجتماعية الشائكة أساسها البخل وفصوله ، ومعظم العوائل والعشائر العربية ، تجد بخيلاً واحداً على الأقل في دوحتها وفلكلورها الشعبي ، وتكون شخصيته ظاهرة ومشهورة أمام العلن ، وبدون إستحياء أو مجاملة .. وإذا مر بقارعة الطريق الكل يعرفه : ( هاهو البخيل ) ، والكل يدعوا الله أن يصبر زوجته وأولاده على العيشة معه تحت سقف واحد ، ويتوارث الأجيال قصته .. وأنا على يقين الآن إن كل من يقرأ مقالي سيحظر في عقله أسم بخيل يعيش من حوله ، وسيتذكر مواقفه التي أشتهر بها.

مع الأسف إن معظم البخلاء يودعون الحياة بنهاية مؤسفة وحزينة ، وهذا ماعلمته وسمعت عنه ويعرفه كثير من الناس .. فطبيعي أن ينفر منه أولاده وقبلهم أمهم ، فيعيش لوحده مع بعض الزيارات القليلة من أجل بر الوالدين ، فنسمع فجأة إنه غادر الحياة وفاحت ريحته ، ودون علم أحد من أقاربه ! ، وكثير من القضايا التي أحتككت بها ، وجدت بجوهرها بخيلاً يطفو على سطحها ، وهذا مارأيته بأم عينيّ ، وبالتجربة ، فبصّمته ودونته برواياتي وقصصي ، وكلها قصص واقعية تدمي العين ، كرواية بخيل العرب  التي لم أطبعها .

أخبرتني أم وأبناءها إن أبيهم البخيل يقفل ثلاجة البيت بقفل إضافي ، ويحتفظ بالمفتاح في جيبه حتى أثناء نومه ، وكلما فتح الثلاجة يعد الفاكهة من جديد كي يتأكد إنها لم تنقص ، وإذا زاره أحد من أقربائه ، يخبره  إنه أشترى فاكهة وإن الثلاجة مليئة بها دون عرضها عليه ، ولقد تأكدت من هذا في غيابه وبحضور أبناءه .

أما البخيل الآخر ، فقد كدس قلبه بملايين الريالات التي تملاً حسابات البنوك بطريقة ( حبر على ورق فقط ) ، ودون التلذذ بها  ، وحرام أن يرى أبناءه وأحفاده فلس أحمر منها ! ، وحتى إن أبكت حالة فقرهم شعوب العالم أجمع .. وأما المصيبة العظمى عندما ترى بعض الأثرياء يزاحمون الفقراء في العطايا المجانية من الحكومة وغيرها !

لم يقصّر الجاحظ في قصصه عن البخلاء ، وأشبعها حتى بان الفيض من أطراف دفتي كتابه ، لكن لم يعلم الجاحظ إن الزمان فاق ما كان يتخيله من قصص وغرائب عن بخلاء هذا الزمن ، وإن الواقع الحياتي الأن يحمل في طياته بخلاء يستحقون لقب أقل ما يقال عنهم ( ملوك البخلاء ) ، إذ بمجرد خروجهم تحت السماء ، يخسف لهم القمر قهراً ، وتكسف لهم الشمس صبراً ، وتدمي لهم القلوب قيحاً  ، فبمدينة خليجية ، وقبل بضع سنوات فقط ، أشرفت الشرطة والبلدية وبحضور جمع غفير من أهالي المنطقة ، بتكسير جدران الطين العريضة برافعة البلدوزر ، وتم أستخراج عشرات من جرار الصلصال المليئة بالريالات الفرنسية الفضية ، ولقد قدر مصدر مسؤول قيمتها بالعملة الحالية  بما تعادل عشرة ملايين دولار ، ولقد تحدث أبناء المنطقة إن  صاحب هذا البيت من البخلاء المشهورين في أواخرالسبعينات الميلادية ، ولقد هاجره أبناءه مع أمهم ، وبقى وحيداً إلي أن مات دون أن يعلموا به ، ففاحت ريحته حتى وصلت البيوت المجاورة ، وهي من العمالة الأجنبية ، فتم أستخراج جثته ودفنه بعد أن قرضت الفئران أذانه وأصابعه ، وبعد أن باع أبناءه البيت ، أراد المشتري أن يهدمه ويقيم مكانه مبناً جديداً ، وتفاجأ أثناء الهدم  ، بوجود كنز مدفون بالجدران العريضة ، وإذا هي جرار كبيرة مختومة بالطين ، وبداخلها ريالات فضية فرنسية !

في نهاية المطاف ، نقـول لاحول ولا قوة إلا بالله ، وساعد الله قلبك يازوجة البخيل ، وساعد الله قلبكم يا أبناءه ، وساعد الله قلبك يا أقاربه وجيرانه ، وساعد الله الملائكة الهاربين من فوقه ، والقرين من الجن من تحته ، فوالله لو للبخل دواء ، لأوجده الباري ، لكن هي علة مامثلها علة ، وأحق أن نسميها بسرطان الأخلاق ، ولن ننسى قول الشاعر في البخيل :

لايخرج الزئبق من كفه ، ولو ثقبناها بمسمار :: يحاسب الديك على نقره ويطرد الهر من الدار :: ويكتب فوق كل رغيف له ، يحرسك ا لله من الفار ، وقيل من الجار .

روائي وباحث اجتماعي