نحن بين الإقناع والإخضاع

 

منذّ الطفولة يتعرض الإنسان لعملية برمجة محيقة - في معظم الأحيان - ويتعود على المُسايرة والطاعة العمياء تلافياً للعقاب ، أو تجنباً لسيل الألفاظ " المُحترمة " التي ستنهال عليه بسخاء مُنقطع النظير لو أنه رفض هذا التوجيه أو تريّث في تنفيذ سواه ، وهو بهذا السلوك المدفوع لمهادنة لسلطة أبوية فوقية يُساهم دون أن يعلم في تراكم مشاعر الغيظ والحنق ، والرغبة المخنوقة في الإنفكاك من هذه العلاقة القسرية الجاثمة على صدره كأنها جبل ضخم وتشعره بصعوبة التنفس ، وتُعيق رؤيته للأمور كما يجب .  

 ذلك الطفل الصغير بدأ يكبر " وينمو " يوماً بعد آخر ، ويشب عوده ، وتتوسع مداركه ، ويتحسس بل ويدرك إحتياجاته ، وينفتح على العالم عبر بواباته ونوافذه الإلكترونية المتعددة ، فيزداد همُّه ويتجذّر غمه ، لأنه لا يلبث أن يكتشف بأنه لا يزالُ حبيساً لتلك القبضة الحديدية التي إختلفت مبرراتها ولم تتحسن أدواتها على الإطلاق ، فإن كانت تتم في مرحلة الطفولة تحت عنوان المسؤولية التربوية ، فهي الآن تتجسد بشكل أعنف وأقسى في إطار تحقيق المصلحة ، وتلبية لمتطلبات الحب والرعاية الأبوية !! واللي أكبر منك بيوم أدرى منك بسنة !! ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم .
 
 وحتى إن كان هناك حوار فهو لا يشبه تقنيات الحوار إلاّ في العنوان والشكل فقط ، أما المضمون فهو يبقى متسلطاً ،  فالبرغم من أن ذلك الطفل قد شبّ على الطوق وراهق حتى بلغ مبلغ الرجال إلاّ أن النظرة إليه لم تتغير في نظر " الوالد الحنون " لأنه في رأيه لا يزال قاصراً ، ولا يدرك مصلحته بعد ، ومن الضرورة بمكان إستمرار المراقبة اللصيقة عليه حتى تتولد القناعة بأنه قد إستكمل متطلبات الفطام الإجتماعي , وحاز على مسوغات الإعتماد على الذات ، وأتقن مهارات التحليق بأمان في آفاق " العولمة الإنسانية " المكتظة بأسوأ أنواع التلوث على الإطلاق وفقاً لما يعتقد !!

 أعتذر لك يا عزيزي إن كنت قد تسببت في إثارة بركان الذكريات الأليمة عن طفولتك في ذاتك التي لا تزال تعمل جاهدة للتخلص من تلك الرواسب البائسة ، فإنني لم أقصد ذلك البتة ، حيث إن هدفي الأساس هو مساعدتك في مشوارك المُضني لإسترداد ثقتك في نفسك ، والإنتصار لذاتك التي تم إذابتها في " الذات الوالدية " ففقدتْ هويتها ، وتقلّصتْ مكانتها ، وتبعثرتْ أهدافها وأصبحتْ كمن يبحث عن ظله في يوم غائم . 

 إنما في المقابل أرجوك ثم أرجوك أن لا تصُب جام غضبك على تلك الذات الوالدية ، وتتنكّر لمواقفها السخيّة معك بين فنية وأُخرى ، وتتمرد عليها الآن بعد أن منًّ اللهُ عليك بالبصيرة كما تعتقد ، وتغرق في وحل الرغبة الجامحة للإستقلال القسري ، وتنتهك حرمة الواجبات لنيل حقوقك في جنون ، وتتصدى لإجهاض كل محاولة لرأب الصدع تحت وطأة التعصب الذاتي المقيت ، وتنساق دون وعي يًذكر وراء من قد تلتقي معهم في الوضع فتنجرف إلى المجهول ، وتتصلّب في موقفك فتخسر حتى المتعاطفين ، فتدخل في معركة " كسر العظم " مع من            لا يستحق منك إلاّ البر ولو أخطأ في حقك – كما تظن – ولكن في نية صادقة حفاظاً على مصلحتك ، فوراء كل سلوك نيةٌ حسنة . تحياتي .

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
فائق المرهون
[ القطيف - ام الحمام ]: 13 / 4 / 2011م - 5:04 م
الأستاذ ابراهيم / وفقه الله
ليس غريبا عليك هذا التعمق , و اختراق الذات الإنسانية بهذه السلاسة , و أنت بهذا تمسك بريشتك بجمالية تحسد عليها .
ولكن _اسمح لنا _ بتواضع أننا قد ألفنا في الشرق على السطوة الأبوية و حتى لو شكينا منها حاضرا , فإننا نعود نبرر لها أخطاؤها مستقبلا , والحالات المتمردة تظل محاصرة بقلة الحيلة والعدد .
يالها من ثقافة سطوية خانقة ولكننا جنحنا نحو عشقها بامتياز !
هل نحتاج لثورات داخلية في أعماقنا أم ماذا ؟ أم أن للثورة تركيبة معينة تتعارض مع الذات المقدسة للأب ! ؟
وتلك حكاية أخرى ........
لك السلام .
2
ابراهيم بن علي الشيخ
14 / 4 / 2011م - 1:46 م
الأستاذ العزيز : فائق المرهون
إن التبرير الذي أوردته في تعليقك الرائع على تسلط الذات الأبوية يعود إلى " النية الصادقة " التي نعوِّل عليها في تعامله معنا كأبناء ، وحرصه على مصلحتنا . إنما أن تتعسف تلك الذات في ممارسة حقها الشرعي علينا . فهذا ما لمست رفضك له في حق . دمت أباً ودوداً ما حييت . رعاك الباري .
إستشاري سلوك وتطوير موارد بشرية