الجدران هايدبارك الشعوب!

الجدران أشبه ما تكون بهايدبارك الشعوب «تشبيها بهايدبارك لندن»، أو سبورة استبيان لمن يخجل أو يخاف التصويت وإعطاء الرأي، فأما نجد بصمات رجل أو هرطقة طفل أو قلم مبدع أو ريشة فنان.

هناك مطلب ضروري للترويح عن ضغوط الإنسان، وهو التنفيس، فمع مرور الزمن يزداد معدل ضغط نفوسنا نحن معشر البشر بفعل الظروف المحيطة بنا، فيكبر جبل قلوبنا حتى يصبح كالبركان الحار، فنحتاج إلى فتح ثغره لأرواحنا كي تـتـنفس وترتاح، ولكن الخطأ يقع دائماً في الطريقة والتوقيت والمكان.

بعضهم يتروى في التنفيس عن ضغوطه والبعض الآخر يتسرع ويبالغ، فنرى تارة قلم شاعر بكر يهجر الأوراق ويتخذ من الجدران ديواناً، وتارة أصابع محب تكتب بحبر الدم عن معشوقة هجرته أو خانته، وتارة نلاحظ مراهق يكتب أراجيزه لترتاح نفسه العطشى، والمجانين لن ننساهم، فهم أيضا يتخذون من الجدران سبورة لطبع شعورهم تجاه الآخرين من عقال البشر.

في دولة جامايكا بالبحر الكاريبي قدم دكتور مونيسي دووم رسالته بخصوص: انعكاس كتابة الجدران على الجيل، فأكتشف بعد دراسة مضنية استمرت لثلاث سنوات، ولأكثر من مليونين تعليق ورسم في كل أنحاء البلاد، فكانت النتيجة، إن ثلثي الشعب يحب الموسيقى، وثلث الشعب يهوى الشعر والثلث الآخر الرسم، وإن عشر الشعب مصاب بمرض نفسي بعد الحقبة التي تلت مقتل البطل القومي «جيفارا»، وإنه انتحر أكثر من ثلاثمائة شخص مسجلة أسمائهم على الجدران، وانتحار أكثر من خمسة ألاف من العاشقين خلال عشرين سنة، وإن باستطاعته جمع خمسين كتاب شعر وقصائد من الجدران.

ولن ننسى جدار برلين الذي يحمل ذكرى عظيمة بقدر ماهي حزينة في نفوس الألمان الشرقيين والغربيين، فهو يحمل تواقيع ثمانية ملايين شخص، ومسجلة بأرشيفه أسماء أكثر من إلفين مفقود تم العثور عليهم قبل إزالته، وزج بالجدار أكثر من مائتين خاتم ودبلة خطوبة، وبه المئات من الوصايا قبل الموت أدخلت عبر الثقوب، وقامت قامت مؤسسة علمية بتصوير الجدار قبل هدمه لدراسة التعليقات والمعلومات التي دونتها أيادي الشعبين خلال فترة العزل.

إذا الجدران ربما تكون أرشيفاً كبيراً للشعـوب، أو لوحة أنظمة ودساتير كما فعل البابليون بالساحة الكبرى، أو ربما سبورة للمجانين، أو مسرحاً بدون ستائر لكومبارس من البشر، أو نشرة مفتوحة للتعبير في ظلمة الليل.

ربما أراد بعض الشعراء والمغردون خارج السرب إلقاء شعرهم بطريقة تختلف عن سوق عكاظ، أو ما يدور ببلاط القصور، فربما يستحقون لقب شعراء الشوارع أو شعراء الحواري، فأبيات من الشعر للمتنبي والبحتري سطرت على جدران بيوتنا وأسوار مقابرنا، فمازال هناك كلام مصفوف يعشعش في نفوسهم سوف تخطه أيديهم، أو ربما مسك الفحم والطباشير أسهل من الأقلام، أو ربما الجدران أحلى من الأوراق، أو ربما بالجدران مكان يعطي الشعراء والكتاب حرية أكثر للتعبير بعيدا عن ساطور الرقيب.

للمعلومية: بيعت صخرة في التسعينات من بقايا جدار برلين بسعر باهظ عليها علامة X وكتب أيضاً هنا أرمي الخبز لأمي 1971..... لكن هل سيصمد قلمي أنا بالكتابة على الجدران.

روائي وباحث اجتماعي