القلب المُهمل: قراءة في دور الإدارة الوسطى

لا شيء أكثر قسوة على الموظف من أن يُحمّل مسؤوليات لا بداية لها ولا نهاية، دون أن تُمنح له الأدوات والصلاحيات اللازمة للوفاء بها، وهذا تماماً ما يعيشه المدير في الإدارة الوسطى داخل كثير من المؤسسات فالإدارة العليا تُطالبه بتنفيذ الرؤى والخطط بدقه، بينما ينتظر منه الموظفون التنفيذيون الدعم والتوجيه والمتابعة

وهكذا يجد المديُر نفسه مطالباً بإنقاذ الموقف، لكنه يشعر وكأنه يعمل داخل ”غرفة عمليات بلا أدوات“ وقد أشارت الدراسات الإدارية الدولية إلى أن ما بين 60 إلى 70 % من المديرين الوسطيين يعانون من فجوة عميقة بين واجباتهم وصلاحياتهم، فجوة تُشبه تلك التي تحدُث حين يُتوقّع من القلب أن يضخّ الدم بينما تُقيّد شرايينه برباطٍ مشدود، وقد لخّص جحا على لسانه هذه المفارقة في كتب الأدب حين قال " وألقاه في اليمّ مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماءِ، ومن هنا يبرز السؤال المهم.

ما هو مفهومنا للإدارة الوسطى؟، ولماذا تلعب هذا الدور الحيوي؟ ولماذا تُهمّش داخل الكثير من المؤسسات؟ وما نتائج هذا التهميش؟ وأخيراً: كيف تستعيد موقعها الطبيعي؟

ما الإدارة الوسطى

الإدارة الوسطى: هي المستوى التنظيمي الذي يشكّل العصب المحرك لأي مؤسسة، وهو المستوى الذي يُترجم القرارات الكبرى إلى عمل يومي منظم.

وقد عرّفتها الأدبيات الأكاديمية بأنها: المستوى الإداري الذي يقف بين واضعي الاستراتيجية ومنفذيها، ويتولى تحويل الرؤية إلى خطط تشغيلية، وتنسيق الجهود، ومتابعة الإداء.

أما على أرض الواقع فهي: النقطة الساخنة الأكثر ازدحاما بالأعباء والمسؤوليات، حيث تتقاطع فيها توقعات الإدارة العليا مع احتياجات العاملين، فطرف يريد تحقيق الأهداف ورفع مستوى الكفاءة والأرقام، وهي الإدارة العليا، وطرف آخر يحتاج إلى التدريب والتوجيه، والتفاصيل والأدوات، والفهم والعدالة والتقدير وحل المشكلات وهم المنفذون

لماذا تُعدّ الإدارة الوسطى مهمة؟

والجواب ببساطه: لأنها تؤثر في العاملين والثقافة والإنتاجية والاستقرار والتغيير و...، وفي كل شيء يمسّ جسم المؤسسة.

1 - لأنها الأقرب للعاملين: المديرون الوسطيون هم الأقرب للعاملين في تفاصيلهم اليومية، وهم من يوزعون المهام ويضبطون الأجواء ويقّدمون التفاصيل والدعم

2 - لأنها صانعة الثقافة الحقيقية: فهي الطريقة غير المكتوبة التي يعمل بها الناس داخل الشركة يومياً وتشمل: القيم المشتركة وطريقة اتخاذ القرار، وأسلوب القيادة والتواصل، وكيفية التعامل مع الخطأ حل المشكلات مع العملاء وما إلى هنالك، فعندما تقول مؤسسة ما ”العميل أولاً“ أو تقول أخرى إن ”السرعة أهم من الجودة“ أو ”الجوة أهم من السرعة“ فإن الإدارة الوسطى هي التي تحوّل هذه الشعارات إلى أسلوب عمل، فتدعم كل القرارات وتُحرك كل الموظفين، وهو ما يحدد ثقافة المؤسسة الحقيقية

3 - لأنها المؤثر الأبرز على الإنتاجية: المديرون الوسطيون ينظّمون سير العمل ويزيلون العوائق، ويتابعون الأداء ويراجعون الأخطاء، ويوزعون الموارد بشكل مباشر وفعال، ولذلك فإن ارتفاع أو انخفاض الإنتاجية يرتبط مباشرة بكفاءة الإدارة الوسطى، وليس بالإدارة العليا

4 - لأنها صمام استقرار المؤسسة: المديرون الوسطيون هم من يحافظون على انسيابية العمليات اليومية ويهدّئون التوترات بين الموظفين ويوازنون بين الضغوط العليا والواقع، ولذلك عندما تكون الإدارة الوسطى مستقرة تستقر المؤسسة وعندما تهتز... تهتز معها المؤسسة

5 - لأنها محرك التغيير: الإدارة الوسطى هي من تشرح التغيير للموظفين وتخفف مخاوفهم، بل هي من تترجم الخطوات إلى واقع عملي، ومن تتابع التنفيذ وتقيس أثره، وتواجه المقاومة وتكسرها بالدعم والتحفيز والمساعدة

لماذا يُهمّش دور الإدارة الوسطى؟

غالباً ما يُنسب النجاح في المؤسسات التقليدية إلى من يصنع القرار أو يظهر في واجهة المشهد، أما أولئك الذين ينفّذون ويواجهون تعقيدات التفاصيل اليومية أو تحديات الواقع التشغيلي، فغالباً لا يحظون بالقدر نفسه من التقدير وذلك لأن ثقافة التقدير، والاعتراف بالجهود والمحاولات في المؤسسات التجارية التقليدية، أو حتى في المؤسسات المدنية أو بين الأفراد في المجتمع الواحد لا تزال أسيرة المنصب لا الأثر، والمشهد الظاهر لا الجوهر، والمظاهر لا النتائج، فتغفل دور من يعمل ويُحاول ويجتهد بصمت ويحمل ثِقل المنظمة على كتفيه دون ضجيج، وقد لخص الأديب الراحل الدكتور غازي القصيبي يرحمه الله هذه الحقيقة حين قال في كتابه حياة في الإدارة، فالإداري الناجح... ليس هو الذي لا يُستغني عن وجوده، بل الذي يُنّظم الأمور بحيث لا تعود بحاجة إليه.

ولعل من أبرز أسباب التهميش والتجاهل للإدارة الوسطى هي:

1 - أن دوره غير صاخب وغير لامع، لكنه في الحقيقة الدور الأكثر تأثيراً واستدامة داخل المؤسسات، ولذلك فإن المؤسسات التي لا ترى قيمة لإدارتها الوسطى فهي تشبه من يهمل قلبه ثم يندهش من هبوط الضغط

2 - أن الوعي المؤسسي القديم لا يفهم أهمية ”منطقة الوسط“ ففي ذهن القيادات التقليدية أن القمة للتفكير والقاعدة للتنفيذ، والوسط مجرد ممرّ بينهما.

وهذا مفهوم خاطئ بل وخطير: لأن الإدارة ليست ”مجرد مرور“ بل هي المنطقة التي تتفاعل فيها الرؤية مع الواقع، وتلتقي فيها المعايير مع التطبيق، بل وتُختبر فيها القرارات ويتحدد فيها نجاح الخطة أو فشلها

3 - أن المدير الوسط غارق في مهام ليست من صميم دوره، بسبب تراكم التوقيعات والمتابعات والمعالجات المتعثرة، وإطفاء الحرائق، والمهام اليومية الصغيرة، وما إلى هنالك، وكل هذا على حساب دوره القيادي فيبدو من الخارج وكأنه ”منفذ“ لا ”قائد“ في حين أن أصل المشكلة في طبيعة العمل لا في قدرته الشخصية

ماذا يترتّب على تهميش الإدارة الوسطى؟

أعتقد أن فشل المؤسسات ليس فقط محصوراً في القرارات الخاطئة أو الأزمات الطارئة، أو..، بل يكفي أن يُهمِل الجزء المسؤول عن ربط مفاصلها ببعضها البعض، وذلك لإن إهماله أو تهميشه ليس حدثاً إدارياً عادي، بل خللُ بُنيوي ينعكس على أداء المؤسسة وثقافتها واستقرارها وقدرتها على التغيير.

فكُلما طال هذا الإهمال، واتسعت دوائره تحولت المشكلات الصغيرة إلى ظواهر تنظيمية يصعب احتواؤها وعليه يصبح من الطبيعي، بل من الضروري أن نطرح بجدية السؤال التالي: ما الآثار التي تترتب على هذا التهميش أو الإهمال؟.

النتائج والآثار

إن تهميش الإدارة الوسطى لا يُنتج مجرد ارتباك تشغيلي أو تخبّط إداري، بل يخلق فراغاً قيادياً خطيراً في قلب المؤسسة إذ تتعثر القرارات في منتصف الطريق، وتفقد الفرق اتجاهها، وتنهار التفاصيل التي تقوم عليها استدامة العمل ومن هنا تنشأ الآثار التالية:

1 - الفجوة ما بين الرؤية والتطبيق

إن الفجوة التي تتسع بين ما تُخطط له الإدارة العليا وما يجري على أرض الواقع ليست مجرد خلل تشغيلي أو تأخير في التنفيذ كما يعتقد البعض، وإنما هي أخطر أنواع التشققات التي تحدث في جسد المؤسسة لإنها تتحول إلى طموح ”معلّق“ فيشعر الموظفون بأنهم يعملون في اتجاه غير الذي تتحدث عنه القيادات، فينشأ ما يُسمى في الأدبيات الإدارية ب ”الانفصال الاستراتيجي“ وهو ببساطه عبارة عن ”مسافة تتسع تدريجيا ما بين ما نريد أن نكونه وبين ما نمارسه فعلاً“ وهو من أخطر المؤشرات في علم الإدارة، لأنه ينتج عنه خلل في الثقافة وتعثر في الأداء والإنتاج، وكمال قال الرئيس التنفيذي السابق لشركة جنرال إلكتريك GE ”جاك ويلش“ إن أسوأ ما يمكن أن يحدث للمؤسسة هو أن تعتقد أنها تنجح.. بينما هي تتراجع

2 - اهتزاز ثقافة العمل

فالثقافة كما ذكرنا لا تُبنى بالشعارات أو في اللوائح، بل بالممارسات والافعال اليومية التي يقودها المدير وعندما يُهمل هذا المستوى من الإدارة، تتشوه الثقافة وهي حالة تقول فيها المؤسسة شيئاً... ويفعل العاملون فيها شيئاً آخر تماماً، ليس لأن الناس سيئون، بل لأن البيئة الداخلية أصبحت تنتج سلوكاً مختلفاً عن هوية المؤسسة المفترضة

3 - انخفاض الإنتاجية

الإنتاجية في الغالب لا تسقط دفعة واحدة، بل تنخفض بهدوء مثلها مثل الآلة التي تعمل بلا صيانة، وحين يغيب المدير الوسط الفعّال: تتراكم العوائق التشغيلية الصغيرة، وتتكرر الأخطاء بلا تصحيح، ويغيب التنسيق بين الفرق، بل وتضيع الموارد بسبب ضعف التوجيه، وقد أشار إلى ذلك تقرير Gallup حيث أن الإدارة الوسطى مسؤولة عن 70% من الفروق في الإنتاج فضلاً عن تفكك الفرق واستقالة المواهب كما قال جون ماكسويل " الموظفون ينضمون للشركات... لكنهم يغادرون بسبب القادة.

الخاتمة

كيف تستعيد الإدارة الوسطى دورها الطبيعي في المؤسسات؟

إنني أعتقد إن استعادة الإدارة الوسطى لدورها ليست مهمة إدارية فحسب، بل هي ضرورة وجودية لبقاء المؤسسات التجارية أو المدنية متماسكة وقادرة على الحركة، فهذه الطبقة لا تقوم بوظيفة ”التمرير“ كما يعتقد البعض، بل تقوم بوظيفة ”الحياة“ ولا يمكن للمؤسسة أن تنجح ورئتها الوسطى مختنقة، ولكي تعود الإدارة الوسطى إلى موقعها الطبيعي، فهي في تصوري تحتاج إلى ثلاثة أمور لا غنى عنها وهي:

أولاً: الاعتراف الحقيقي بدورها الاستراتيجي، وذلك عندما نتعامل معها كشريك في صياغة القرار، لا كمجرد منفذ يتلقى التعليمات

ثانياً: تمكينُ يوازي حجم المسؤولية " وذلك بإعطائها صلاحيات واضحة، ومساحة قرار مناسب، وأدوات مناسبه، لا مجرد متابعة أعمال مرهقة بلا معنى

ثالثاً: دعمُ وتطوير مهني مستمر لبناء قدرات قيادية حقيقية لا كإطفاء للحرائق والاعطال اليومية، فعند ذلك فقط تعود الإدارة الوسطى لتكون كما يجب قلباً نابضاً لا يتوقف، ومحوراً يربط بين الرؤية بالواقع.