الصراخ في وُجُوه الأطفال مثل ضربهم

من الأساليب الخاطئة التي يتبعها الأهل في التعامل مع أطفالهم هو أسلوب الصراخ في وجههم، ونعتهم أو توبيخهم بالألفاظ القاسية، أو البذيئة والسيئة. فكثيراً ما تصدر من الأطفال أثناء لعبهم تصرفات عفوية وتلقائية، وذات دوافع طفولية وفضولية، فهم دائماً يتصرفون على سجيتهم، مما ينتج عن ذلك ضوضاء شديدة، وأخطاء سلوكية، وتصرفات سلبية، أو مشاغبات مزعجة، أو فوضى وتخريب. غير أن بعض الآباء نتيجة عدم قدرتهم على تحمل كثرة حركة أطفالهم ولعبهم وصراخهم، ناهيك عن طلباتهم الزائدة والمزعجة، يبادرون إلى رفع أصواتهم بالصراخ في وجوههم بغضب وانفعال، وتعنيفهم بألفاظ حادة وجارحة، بقصد ثنيهم عن مواصلة لعبهم، أو طلباتهم وإزعاجهم.

غير أنه «ليس من الحكمة أن تنفعل الأم، أو الأب، بالصراخ في وجه الطفل ونهره، ومطالبتهم بالصمت والتزام الهدوء أثناء لعبه. فالطفل لا يفهم هذه المعاني ويرى أنه لم يخطأ، فهو يريد فقط أن يلعب ويخرج طاقته الكامنة في اللهو والجري والصراخ وإصدار الأصوات العالية. كما أن الكثير من الأطفال يصرخ أثناء اللعب مع أقرانه للحصول على الأشياء، ويبكي بصوت عال، ولا يلتفت لكلام الأم ولا إلى صراخها، وينزعج من النصائح المستمرة بعدم إصدار الأصوات العالية، وكثيراً ما يهمل كلام الأم لأنه يفقد التركيز معها، فهو يريد أن يستكمل اللعب دون توتر أو إزعاج أو نصيحة، وهو يرى أنه على حق، وهذا حقه».

إن ما ينبغي التنبيه إليه في هذا الصدد هو أن الصراخ ورفع الصوت بغضب وانفعال في وجه الطفل يُعد شكلاً من أشكال المعاملة السيئة، والتي دائماً ما تترك تأثيراً سلبياً في نفسيته، خصوصاً عندما يكون هذا الصراخ والغضب في وجهه أمام أحد أقرانه أو أقاربه، إذ يكون أشد قساوة وتأثيراً على مشاعره وأمانه النفسيّ، وينعكس بشكل سيئ على شخصيته وطباعه وسلوكه على المدى البعيد، ويخلق حالة من الخوف لديه، ويضعف ثقته بنفسه. فالصراخ على الطفل، وإلقاء اللوم عليه، وإهانته، وتهديده، أو السخرية منه، بشكل دائم ومستمر سيترك في داخل نفسه شيء من الحقد والضغينة والنغمة تجاه من صرخ في وجهه ووبخه وعنفه وأهانه. ويمكن أن يؤدي به إلى الجنوح والانحراف، ويضعف شخصيته، وقد تصدر منه ردود أفعال عدوانية في تعامله مع إخوته، أو أصدقائه وأقرانه، وربما ضد والديه أيضاً.

إن رفع الصوت في وجه الطفل واستخدام كلمات التحقير ضده أمام أقرانه ورفقائه يؤثِّر تأثيراً كبيراً على شخصيته وفي سلوكه، حيث يحذر نزار الصالح «من تأديب الطفل أمام الآخرين؛ فالطفل حساس في هذا الجانب، وإذا أثنيت عليه أمام الأخرين فذلك يجعل الصدى مضاعفاً، ويسعد الأبناء بالفرح، حيث يعد هذا الثناء مكافأة لسلوكه في البيت وتعزيزاً لتصرفاته، أمّا إذا وُبُّخ بصرامة أمام الآخرين فسوف ينعكس ذلك سلباً عليه؛ مما يجعله منطوياً ومنعزلاً عن الآخرين، ومن الممكن أن يتحول لطفل عدواني، ويكسر كل شيء حوله، ويصبح عصبياً. ويزيد الأمر سوءاً إذا كان التوبيخ أمام أطفال في نفس مرحلته العمرية، فالأطفال يوبخونه بما قال والداه، وتصبح وصمة في شخصيته يصعب خروجه من دائرتها، وبالتالي يصبح يتعامل بشكل عصبي مع الآخرين».

وفي هذا السياق تشير دراسة أمريكية إلى أن الصراخ على المراهقين يؤثّر بشكل سلبي فيهم، مثل ضربهم. وبينت الدراسة التي نشرت في دورية «نمو الطفل»، إلى أن أغلبية الأهالي يستخدمون التعنيف الكلامي لتهذيب أولادهم في مرحلة المراهقة.

وأجرى الباحث الأساسي في الدراسة، «مينغ تي وانغ»، البروفيسور المساعد في علم النفس بجامعة بيتسبيرغ، و«سارة كيني»، من معهد الأبحاث الاجتماعية في جامعة ميشيغان، دراسة استمرت عامين على 967 مراهقاً وأهاليهم في 10 مدراس متوسطة حكومية في شرق ولاية بنسلفانيا.

واستنتج الباحثان أن استخدام الألفاظ القاسية يسهم في تأزيم سلوك المراهقين، عوضاً عن تصويبه. كما وجدا أن المراهقين الذين استخدم أهاليهم التعنيف الكلامي لتأديبهم عانوا معدلات مرتفعة من عوارض الكآبة، وكانوا أكثر عرضة للمعاناة من مشكلات سلوكية، مثل السرقة، والسلوك العدائي المعادي للمجتمع. كما وجد وانغ وكيني، أن الآثار السلبية للتأديب الكلامي، يمكن مقارنتها بالآثار التي ظهرت لدى مراهقين آخرين في دراسات ركزت على آثار التأديب الجسدي.

وعلق وانغ على نتائج الدراسة بالقول إنه «يمكننا أن نفهم أن هذه النتائج ستدوم مثلما تدوم آثار الضرب، لأن آثار التأديب اللفظي مشابهة لآثار التأديب الجسدي»، متوقعاً أن تبقى هذه الآثار في المراهقين على المدى الطويل. كما وجد الباحثان أن الحنان الأبوي، أو قوة الرابط بين الوالد والطفل، لم يخففا من وطأة التأديب اللفظي، مشيراً إلى أن فكرة صراخ الأهالي على أولادهم بدافع الحب، أو من أجل مصلحتهم، لم يخفف من حدة الضرر اللاحق بأطفالهم جراء صراخهم.

واستنتج الباحثان أن المراهقين كانوا يتلقون تأديباً كلامياً عند إظهارهم مشكلة سلوكية، مشيرين إلى أنه من المرجح أن تستمر هذه المشكلات السلوكية عند سماع المراهقين للألفاظ القاسية. ووصف وانغ المسألة «بالحلقة المفرغة»، معتبراً أنها «مسألة يصعب اتخاذ قرار فيها، حيث إن المشكلات السلوكية للأطفال تدفع الأهالي إلى تعنيفهم كلامياً، في حين أن هذا التعنيف قد يدفع المراهقين باتجاه هذه المشكلات السلوكية عينها»".

من الطبيعي أن تصدر من الأطفال تصرفات سلبية ومشاغبات أثناء لعبهم ولهوهم، وعادة ما تكون بغير قصد منهم، مما يتسبب في ارتكابهم الأخطاء، وإثارة الفوضى والضجيج والصخب، سواء كان ذلك داخل المنزل أو في الأماكن العامة، وهو الأمر الذي يزعج الآباء وتضيق منه صدورهم، ويضعهم في مواقف محرجة، مما يدفعهم إلى توبيخهم والصراخ في وجوههم، والتلفظ عليهم بعبارات قاسية من أجل التوقف عن اللعب والكف عن الشغب، معتقدين بأن هذا الصراخ سوف يردعهم عن اللعب والشغب ويرفع عنهم الحرج، أو أنه أسلوب تربوي ناجح لتأديب الأطفال، وإصلاح الأبناء وتربيتهم، وتعريفهم الصواب من الخطأ، ويمنعهم عن الإتيان بالأفعال الخاطئة.

إلا أن الانفعال والصراخ في وجه الطفل، وفقدان الأعصاب في التعامل معه، والتفوّه بألفاظ جارحة وقاسية ضده، والصراخ من أجل تعديل سلوكه، بدلاً من محاكاته بالمنطق، قد يتسبب في زيادة أخطائه وتكرارها من دون أن يتعلم منها. فالصراخ المفرط على الطفل ظناً بأنه سيتعلم من أخطائه يمكن أن يعطي نتائج عكسية تماماً، فقد يمارس الطفل العناد ويعود إلى ارتكاب الخطأ مراراً وتكراراً مما يدفع به ليتحول إلى طفل مشاغب.

علاوة على ذلك فإن التوبيخ المهين الذي يتعرض له الطفل أمام الآخرين له انعكاساته السلبية على نفسية الطفل ومشاعره، وينتج عنه عدم ثقة بالنفس، ويتكون لديه مشاعر باحتقار الذات، ويؤدي إلى شعوره بالاكتئاب والحزن، وتتعزز لديه وصمة الفشل. فبدل أن يسعى الآباء إلى تعديل سلوك الأبناء باللين والتوجيه والنصح يثورون في وجوههم بالصراخ والأصوات المرتفعة مما يدفعهم مع مرور الوقت وتكرار هذا الفعل ليصبحوا أشخاص غير أسوياء ومنحرفي السلوك في المحيط الذي يعيشون فيه.

لذلك يجب على الآباء والمربين معرفة نتائج الفعل الذي يقومون به ضد الأطفال قبل فوات الأوان حيث لا ينفع الندم بعدها. فالممارسات السلبية التي تصدر من الآباء قد تشكل خطراً كبيراً على الطفل في حال استمرارها. فالصراخ في وجه الطفل يعد من الأساليب غير الصحيحة في تربية الطفل، وتخلق نوعاً من الخلل داخل شخصيته، حيث ينمو معه هذا الخلل، فيجعله يعاني من مشاكل نفسية في المستقبل، وتدفعه إلى ارتكاب الكثير من المشاكل في البيئة الأسرية والمجتمعية التي يعيش فيها.

وعندما ينشأ الطفل وتربَّى على أسلوب الصوت العالي والصراخ والانفعال والغضب في التعامل معه، فإنه بشكل تلقائي سوف يتخذه أسلوباً ونهجاً في التعامل مع الآخرين في البيت والعائلة والمدرسة، ويتبعه كوسيلة تواصل وتفاهم مع إخوته وأصدقائه وأقرانه، وفي المجتمع المحيط به، وربما مع والديه أيضاً. وحين يصبح أباً في المستقبل يمكن أن يستخدم ما أختزن في ذاكرته، وما مورس معه من أساليب، ويعيد إنتاجها في تعامله مع أولاده.

من المفيد القول بأن كثرة الصراخ يتسبب في إشاعة مناخات متوترة داخل البيت. والصراخ الدائم في وجه الطفل وتأنيبه المستمر، سيشعره بأنه فرد غير مقبول، وأن الجميع يبغضونه، ولا يرتاحون لتصرفاته. غير أن أسلوب الحوار الهادئ القائم على ضبط النفس، والمفعم بالود والحب والحنان والرحمة والاحترام، والهادف إلى تحقيق مصلحة الأبناء، والبعيد كل البعد عن أساليب الصراخ والغضب والألفاظ الجارحة والمهينة، يمكن أن يساعد في تعديل السلوك غير المرغوب فيه وتقويمه.